الوطن، تغنى فيه الشعراء معلقات، وكتب عنه الكتّاب كتباً، وفلسفوه الفلاسفة حكمة وتنظيراً، ورفعوه أهل اللغة مقامات، وهام به العشاق غزلاً. فأصبح ملحمة تاريخية من اللغات والمشاعر والروح والحنين والشوق. هو يأتي مع الفطرة دون أن ندرسه أو نتعلمه.
لا يفسر بالمصطلحات والأبجديات. ولا يختلف على تعريفه اثنان؛ حيث تكون الحرية يكون الوطن. عندما يمرض الوطن يمرض أهله؛ قول مأثور من حكايات مدن التاريخ، وقصص غربة الأوطان.
الوطن، "ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي. انه حياتك وقضيتك معاً" كما يقول محمود درويش، وليس جواباً للنفي، وإنما توكيداً ثابتاً في اللفظ والمعنى والعقل. هو الأحساس بجمال الانتماء والحنان والألفة. موجود معنا في هدوءه أو صخبه، وكذلك في أزماته وصراعاته ومرضه؛ هو المنزل والايمان والقضية. "إذا عقَه الإنسان يوما عقّ امه" بمنطق ابن الرومي

وعندما نذكر الأوطان، يأتيك العراق نسمة عليلة يفوح منه عطر التاريخ، وحبر الكلمة، وقوانين الإنسانية؛ فاعل عبر الزمن لا يقبل القسمة، ولا بحروف المجرور به. يَصنع ولايُصنع، يَختزل ولا يُختزل.
هو نشيد ملحمي مكتظ بالمعاني والحِكم والتفاصيل والمشاعر؛ أول الحضارات الإنسانية، أول مدنية في التاريخ، مركز الخلافة الإسلامية لأكثر من خمس قرون، موطن الأديان والأنبياء وأوليائه الصالحين، منار المعرفة منذ القدم. أول تلفزيون في الشرق الأوسط. لذلك يستحق أن يقول عنه الشعراء؛ سلام على هَضَبات العراق ...وشطّيه والجُرف والمُنحنى(الجواهري)، ستين قرنا ياعراق ولم تتعب/ ومن أعطيتهم تعبوا (عبد الرزاق عبد الواحد)
منذ سنوات، وهو مصاب بسكون المكان، ووحشة الأهل، وغدر الزمان، وتوحش الجار قبل الدار. صار أنقاضاً من الخردة، والمستنقعات الآسنة. مات زرعه، وجفت ارضه ونهريّه، ونهبت أمواله، وخُتمت حياته بالشمع الأحمر، وسرقت العقول من المدارس والجامعات، فاستعان بتعليم الردح وشرب الكريستال ورشاوى المال.
لم يعد الأول في محو الأمية بل صار الأول في عداوة الحرف والكتاب والجمال، والأخير في الرفاه والعيش الكريم والمواطنة.
كان العراق عبر الزمن يحافظ على ثوابت الدولة، وبعضاً من متطلبات السيادة والحياة؛ فأسس مجلس أعمار في عصر الملكية الذي نجح في إنشاء مشاريع كبيرة من البنى التحتية ومجالات التعليم والإسكان والمستشفيات والطرق والسدود والمصانع وسكك الحديد وغيرها.
ولاحقاً في عصر الجمهورية نشأت الأزمات والصراعات الحزبية والاستبداد الفردي والحزبي، لكنه بالمقابل بمركزيته، وفر الأمن والأمان، وخلق نظام المؤسسة، وأنشأ المصانع والطرق والجسور، ونشر التعليم المجاني، وجعل الأمية الأبجدية صفراً في المجتمع.

صار عراق اليوم صفراُ على اليسار في مكان تسكينه؛ اللا شيء في منطق الرياضيات. هو مكتشف الصفر على اليمين قبل نحو خمسة الآف عام. ورمزاً في الكتابة عندما استخدمه البابلي في القرن الثالث قبل الميلاد. كان الصفر العراقي فاعلاً على اليمين يعطي قيمة عددية للحياة، ويكبر به بالمنجزات والاختراعات. وطن صاحب الأصفار الكثيرة من اليمين.
يالفاجعة الوطن، عندما أستوطن فيه الحاكم الدجال، وجهالة الجاهلية، والعقول المتعفنة بدجل العرافين والسحرة والكهنة، وكواتم الدم، واللصوص والمافيات، حيث جيناتهم قاتلة لبروتين الحياة والتطور والأمل والجمال؛ جينات مال وسلطة وطائفية وعمالة للأجنبي. فحولوه اليوم إلى خربة تلقى فيها قذارات العالم وروث الحيوانات البشرية.

فأيّ عراق نتحدث عنه اليوم، وقد هجره التاريخ، وخرائط المدن، وغادرته سفن المحبة، واقتلعت من جذوره الوطنية والشهامة، وصار عنواناً للتندر والسخرية، وفاعلاً في حمامات الدم والقتل والفساد، والدجل الديني والنحيب الذي لا ينقطع عنه في كل الفصول.
صرنا نتحدث عن ضيعة ريفية ليس فيها طرقاً حديثة، ولا كهرباء يضئ الظلمة، ولا ماء يصلح للشرب. صرنا نخجل أن نقول أمام الموزمبيقي أننا من العراق!

قالوا العراق، واي عراق هذا الذي كان يوماً سيداً للعالم بعمامته العلمية يتكلم بالمنطق والنسبية والتطورية، بينما نتحدث اليوم بمنطق سيوف النحر، والتباهي بمفاخر القتل، ونبش الأموات وإعادتهم للحياة لتدويل الحياة بالخرافات والطقوس والخرابيش.

أيّ عراق هذا الذي جُوّع أهله وأذلوه، ونحروا وطينته، ومرغلو أنفه في التراب. وطن ممزق ومختطف ومنهوب الثروات، حتى كدنا نصدق ما يقال بأن هذا الوطن صاحب الحضارات والشعر والجمال والعلم سيمحى من خارطة الأوطان!

دمروا هيبة البيت العراقي لاقتلاع ما تبقى من القيم والفضائل، وتفتيت التضامنية والعلاقات الاجتماعية، ومحو القدوة في العائلة. وقتلوا قيم الحارات والمدن بطقوسها وعاداتها ومناهج حياتها لإلغاء تاريخ البشر وذاكرتهم الجماعية. هدموا المؤسسات والنظم الاجتماعية والاقتصادية لإعدام المجتمع من الوجود والذاكرة. فما بقي في العراق إلا روحه الجميلة، واسمه الملون بالحضارات والأنبياء.

اختزلوا العراق الكبير في "منطقة خضراء"، لكنها منطقة سوداء استوطن فيها التخلف وتوحش القتل والدم والعملاء، وجعلوها قلاعاً أبوابها من الحديد والكتل الكونكريتية، لا يدخلها إلا من يحمل باج “العميل" و"المأجور" و" الفاسد" و"القاتل".

منطقة صارت في دوائر الجنسية ولاية أجنبية يتقاسمها الغرباء والهمج والسماسرة وغربان فطائس الفساد؛ ارض سوداء تزدحم برذائل السياسة وعفوتنها، وتختمر فيها جراثيم العمالة، وتموت الوطنية تاريخاً وقضية، حيث يُخمد فيها الشغف والحب والأمل!

قديما قالوا: ليلى في العراق مريضة. واليوم ليلى وأهلها وفراتيّها ونخلّها وحدائقها وحمائمها يأكلهم الفقر، ويفتك بأجسادهم المرض. لا نجد في العراق إلا دموعه وغربته، وقد ضاق به مرض الشوق والحنين إلى ماضيه الجميل، ومشرق مولده، وخزائن معارفه، وجمال حضارته، ووهجه والقه. غريب يسأل عن نفسه: أين العراق؟


[email protected]