أصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بدايات الحِراك الشعبيّ في سوريا على الصلاة في الجامع الأمويّ وسط العاصمة دمشق، ورسم ما اسمّاه "بالخطوط الحمراء" للدولة الجارة، لكن بعد أكثر من عقدٍ من على قوله "سأذهب إلى سوريا وأصلي إلى جانب أخوتي السوريين في جامع بني أمية" بات من الواضح بأنّ هذه الصلاة إن تمّت ستكون برفقة رئيس النظام السـوريّ بشار الأسد.

لم يستقبل السوريون العام الجديد بحالٍ أفضل، في وقت تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية يوماً بعد يوم، ويسجل فيه الدولار ارتفاعاً غير مسبوق مقابل الليرة السورية. فقد فاجئ اللقاء الثُلاثي الذي عقد في موسكو بين وزراء دِفاع كُل من سوريا وتركيا وروسيا أطراف عدة، لاسيما قاصري النظر الذين لم يرد احتمال التصالح في حساباتهم السياسيّة، وراهنوا على مدار السـنوات السابقة على الدعم المستمر من "الجارة" تركيا.

تصريحات قادة المعارضة المدعومة من أنقرة جاءت مـتأخرةً وخجولةً فيما يخصُّ اللقاء الُثلاثي، ولم تتمكن هذه التصريحات من بث الحدِّ الأدنى من "الطمأنينة" في نفوس من يعتبرون داعمين للمعارضة التي باتت محصورة في شمال وشمال غرب سوريا، بل قُوبلت بسخط واسع، وتجلت بردود فعلٍ سريعة من خلال تنظيم تظاهرات شعبيّة احتجاجاً على أيّ تطبيعٍ قد يحصل بين البلدين، وبالرغم من محاولات شخصيات المعارضة أن يبعثوا رسائل مبطّنةً مفادها: "أنَّ الوزير التركيّ قد أكّد لهم بأنَّ أنقرة مستمرة في دعمهم" وأنَّ التطبيع لن يكون له أي آثار سلبيّة على المناطق التي تخضع للاحتلال والنفوذ التركيّ، وأنَّ الهدف هو مناطق شمال وشرق سوريا، إلا أنّ هذه الرسائل لم تحقق أي نتائج ملموسة. خاصة مع المتغيرات المباشرة لسلوك السلطات التركيّة إزاء اللاجئين السوريين واستمرار ترحيل أعداد منهم قسراً، وإعادة صياغة الوضعِ الفصائليّ في المناطق التي تحتلها.

لا يخفى بأنّ الرئيس التركي قد سعى مراراً وتكراراً خلال السنوات الماضية تحقيق مزيد من التوغل في العمق السوريّ واحتلال عدد أكبر من الأراضي السـورية وإنهاء أيّ وجود "للعدو اللدود" وهنا نتحدث بوضوح عن الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا والتي باتت تشكل فوبيا سياسيّة لأردوغان، لاسيما بعد محاولاته التي باءت بالفشل بالحصول على ضوء أخضر جديد من قبل الولايات المـتحدة وروسيا لعملية عسكرية تمكّنه مجدداً من التوغل أكثر ضمن الأراضي السوريّة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذا التطبيع يستهدف الكرد فقط؟

الشروط من قبل النظام السوريّ للتطبيع مع تركيا كانت واضحة بما فيه الكفاية للردِّ على السؤال المطروح، إذ إن دمشق لن تخطو أيّ خطوات جديّة نحو تركيا قبل أن تقوم الأخيرة بوقف الدعم عن الفصائل والأطراف المعارضة للأسد بل تسليمها له، والانسحاب من المناطق المحتلة والتي تبلغ أكثر من 8000 كم ومن هنا يمكنُ القول إنَّ التطبيع التركي السوري يستهدف عدة أطراف .ويتبين خلال الخوض في بعض التفاصيل ما يلي:

ـ الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا : إنَّ أحد الأهداف الرئيسية لتركيا من هذا التطبيع هو القضاء على الإدارة الذاتيّة وفرض أي قوى أخرى، ومهما كلف تركيا ذلك على طول الشريط الحدوديّ، ولمنع أيّ مشاركة للإدارة في مستقبل البِلاد، فأردوغان الذي يتودد إلى الأسد ولكن تناسى الأخير بأن في النهاية هناك لاعبون آخرون غيره، فالولايات المتحدة على وجه الخصوص ستكون أمام تحد كبير في مواجهة هذا التطبيع إلى جانب الحلفاء في قوات سوريا الديمقراطيّة، وبالتالي سيشكلُ التطبيع إن حصل ضربةً مباشرة للسياسة الأمريكيّة في سوريا، ومن المفترض ألا تتخلى أمريكا عن وجودها في شمال البلاد لصالح النظام السوريّ أو حتى لروسيا. في النهاية وجوده من عدمه مرتبط بمصالح استراتيجيّة تتصل بمحاربة تنظيم داعش من جهة، وإيقاف التمدد الإيراني من جهة أخرى، وبالتالي فإنَّ التخلي عن شمال سوريا يعني إعطاء الضوء الأخضر لإيران بشكلٍ غير مباشر.

تدرك الإدارة الأمريكيّة جيداً أنَّ النظام السوري لن يكون قادراً على إدارة مناطق الشمال أو حتى شمال غرب البِلاد، فالمناطق الواقعة تحت سيطرته تعيش تحت وطأة أزمة اقتصاديّة كفيلة باستمرار انحساره بما فيه الكفاية، وبالتالي فإنَّ فرضيّة انسحاب القوات الأمريكيّة من سوريا، واتخاذ موقف المتفرج حيال مسار التطبيع كما تم التخطيط له مستبعد في المرحلة الحالية، ولعلّ تصور البعض أنّ قادة البيت الأبيض سيجبرون على رفع كلّ العقوباتِ عن النظام السوريّ ومن ضمنها قانون قيصر، هو إسراف في التفاؤل، ويقوم على أساس تعميم التجربة الأفغانيّة والانسحاب الأمريكيّ، كما أنّه يتجاهل معطيات سياسيّة وركائز سياسة واشنطن في المنطقة الأكثر أهميّة بالعالم على مدى عقود، بمعنى أنّه يتجاوز الميدان السوريّ على أهميته، وسيسبب حالة تخبط دوليّ، ويكرّس حالة انعدام الثقة في سياسة البيت الأبيض عالميّاً، ويضع الهيبة الأمريكيّة على المحكِّ، وهو ما يؤخذ على سياسة الرئيسِ الأمريكيّ السابق دونالد ترامب.

ــ المعارضة المدعومة من أنقرة: يبقى الرهان الأكبر اليوم على المعارضة المدعومة من قِبل أنقرة، فهي في مرمى الاستهداف من قبل النظام السـوري عاجلاً أم آجلاً وبالنسبة للأخير فلا يمكن الحديث عن أي تعاون مع تركيا ما لم تقم الأخيرة بحلِّ هذه الجماعات وبالتالي فهي الورقة شبه الوحيدة بيد تركيا لعرضها على النظام. ومن الواضح بأنّ مصيرها سيبقى مجهولاً بشكلٍ كبيرٍ، وستكون الخيارات والاحتمالات محدودة بالنسبة لهم. ففي النهاية تركيا لن تساوم على سياستها وبخاصةٍ في الوقت الذي يحارب فيه أردوغان الجميع من أجل الانتخابات القادمة. وهذا يعني إما التسليم أو إعادة سيناريوهات المصالحة على غرار جنوبِ البلاد، ولكن إن كان النظام السـوري سيفي بأيّ وعود بخصوص المصالحات فهذا ما لا يمكن ضمانته، ولا تملك أنقرة أيّ ضمانات بهذا الخصوص لتقدمه للمعارضة بشقيها السياسيّ والمسلح.

وإن كـانت هنالك خيارات أخرى للمعارضة السـورية فهي أيضاً محصورة إما بالضوء الأخضر التركيّ الذي لن يتجاوز دفع الفصائل للاقتتال فيما بينها، وتصفية بعضها البعض تحت ذريعة تأسيس معارضة داخليّة معتدلة وإنشاء جسم سياسيّ لا يعارض مسار التصالح، والحقيقة على أنّه وفق "المواصفات القياسيّة" التي تناسب النظام السوريّ. لكن خلاصة الأمر أن كل ذلك سيروّج على أنّه إنجاز سياسيّ تركي يصب لمصالحة الدعاية الانتخابيّة للرئيس التركي داخل تركيا، وكذلك أمام المجتمع الدولي لأنقرة دور في صناعة السلام على حساب كل الشعب السوري.
أما الخيار الآخر للمعارضة في حال المصالحة فهو التوجه نحو مناطق "قسد" وتشكيل تحالف مشترك لمواجهة كل التهديدات المشتركة والسعي لإعادة صياغة مطالب المعارضة في إطار هيكليّة تتوافق مع الإدارة اللامركزيّة والتعدديّة، وحينها يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دور الوسيط فيما بين الطرفين.

ــ اللاجئون السوريون في تركيا: مصير أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركيّة سيكون واضحاً بشكلٍ كبير، فالرئيس التركيّ ما زال يساوم عليهم منذ سنوات في مواجهة خصومه من المعارضة التركيّة في الانتخابات، وهم بالتالي الورقة الرابحة والمضمونة لمواجهة خصومه، وسيقدمهم كـ"عربون" حُسن نية للنظام السـوريّ.

ــ أما السوريون في مناطق سيطرة المعارضة المدعومة من أنقرة، فسيواجهون مصيراً مجهولاً، ولربما هم الخاسر الأكبر في هذه المعادلة والسبب يتجاوز مسار التصالح، بل يعود جوهريّاً إلى انعدام التجانس المجتمعيّ، فسكان هذه المناطق هم تجمع قسري من مناطق سوريّة عديدة، وبالتالي أيضاً فإنَّ كُلَّ فصيل مُسلح قد سبق وجر معه الآلاف من المدنيين وهؤلاء سيكونون في مرمى اتهامات النظام السوريّ وغيرهم في مرمى اتهامات الفصائل التي سرعان ما تقبل مرغمةً بالمصالحة. إذاً كل فصيل في الشمال والشمال الغربيّ للبلاد له ارتباطاته الداخلية والخارجية، والجميع يعمل وفق مبدأ " المصلحة أولاً" وهذا ما أثبتته جملة الاقتتالات التي حصلت ما بين الفصائل على مرّ السنوات السابقة. يضاف إلى كل ذلك عامل أزمة المعيشة والغلاء وضعف فرص العمل، وبذلك ستشهد تلك المناطق استمرار عمليات التصفية والاعتقال والنفي على غرار ما حصل خلال السنوات السابقة.

يمكن نستخلص مما سبق أنَّ التطبيع الذي يطمح له أردوغان قبيل إجراء الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة في يونيو/ حزيران القادم، هو ترتيبٌ انتخابيّ، وفي الوقت نفسه يراد منه إنجاز اتفاق أمنيّ لا يتصل بالحلّ السياسيّ الشامل، وستكون تبعاته على سوريا كارثة سياسيّة وإنسانيّة. وفي الوقت ذاته، تتطلع موسكو عبر وساطتها إلى الالتفاف ومصادرة القرار الأمميّ 2254، الذي يتضمن خارطة طريق لحل شامل للأزمة السوريّة، كما أنّ التطبيع يتناقض مع مخرجات كلّ المؤتمرات والاجتماعات الدوليّة والمحليّة ذات الصلة بالحلّ السياسيّ لسوريا. كما يتنكر لمئات آلاف الضحايا السوريين الذين قضوا بطرق في شتى، ليس فقط في ميادين الصراع المسلح، بل حتى في المخيمات والبحار والغابات. السؤال الجوهريّ الذي يطرحه مسار التطبيع، هل تعود جذور الأزمة السوريّة التي بدأت في آذار 2011 بسبب خلاف أمنيّ بين أنقرة ودمشق ليكون الحلّ أمنياً بينهما؟.