"الخليج العربي" أحد أكثر المفاهيم التي تفضح حساسية النظام الإيراني تجاه جواره العربي، وهناك الكثير من الوقائع الدالة على ذلك في التاريخ المعاصر، آخرها عودة المسألة إلى الواجهة مجدداً من بوابة إستضافة العراق لبطولة "خليجي 25" لكرة القدم، حيث برز الخلاف بين بغداد وطهران إثر إستدعاء الأخيرة للسفيرة العراقي لديها للإحتجاج على إستخدام مسمى "الخليج العربي" خلال البطولة بدلاً من المسمى الإيراني للخليج.
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكد انه تم إستدعاء السفير العراقي لدى بلاده بعد إستخدام السلطات العراقية لـ "مصطلح وهمي"، وأنه قام بنقل "حساسية الشعب الإيراني" تجاه إستخدام المصطلح الدقيق والكامل للخليج من وجهة النظر الإيرانية بطبيعة الحال! وأكد عبداللهيان، أنه "على الرغم من أن لدينا علاقات إستراتيجية وأخوية وعميقة مع العراق، فقد أعربنا بوضوح عن إحتجاجنا على هذا الموضوع".
في الإطار السابق هناك ملاحظات عدة يمكن مناقشتها أولها أن النظام الإيراني يثير أزمة تسمية الخليج العربي إنطلاقاً من إستخدام رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وكذلك السيد مقتدى الصدر للمسمى خلال ترحيبهما باحتضان البصرة فعاليات البطولة، وهذا أمر طبيعي لا شىء فيه لأن العراق دولة عربية تستضيف دولاً خليجية عربية، ومن الطبيعي أن يتم إستخدام المسمى في إطار المواقف والسياسات العراقية المعتمدة رسمياً، ولاشىء جديد على هذا الصعيد، وهناك تناول وتداول يومي لمسمى الخليج العربي في جميع العواصم العربية والخليجية ولم تحتج إيران سوى على الموقف العراقي، وهذا عائد ـ برأيي ـ لسبب أساسي يكمن في نظرة النظام الإيراني للعراق وسياساته الخارجية التي يعتقد أنها يجب ان تتسم بالتبعية التامة للمواقف والسياسات الإيرانية، وهذا أمر مرفوض قطعياً سواء من العراقيين أنفسهم أو من العرب أيضاً. الملاحظة الثانية ترتبط بالأولى ولا تنفصل عنها وهي أن إيران تشعر بالقلق والغضب الشديد إزاء إستضافة العراق للبطولة الخليجية، وترى في ذلك عودة تدريجية للعراق إلى حاضنته العربية الطبيعية، وهذه مسألة لابد وأن تثير حفيظة إيران التي تعمل منذ عام 2003 على ترسيخ فكرة إرتهان العراق للدوران في الفلك الإيراني متجاهلة العمق العربي التاريخي لهذا البلد العربي العريق، الذي يمتلك نخبة واعية ومقومات وركائز وموارد بشرية ومادية تحول بينه وبين الإرتهان لأي بلد آخر، وأن التمدد الإستراتيجي الإيراني في العراق خلال السنوات السابقة وحتى الآن لم ولن يكون سوى سحابة صيف عابرة في مسيرة هذا البلد العربي، وأن الأمور لابد وأن تعود إلى طبيعتها بمجرد أن يتخلص العراق من الإشكاليات التي يعانيها وتسببت في تباطؤ عودته لاستئناف دوره ومسيرته الحضارية والانسانية.
يتذرع وزير الخارجية الإيراني بأن الشعب الإيراني يستشعر حساسية خاصة تجاه تسمية الخليج بـ"مصطلح وهمي" متناسياً أن الشعب الإيراني ليس طرفاً في هذه المواقف الصغيرة التي يفتعلها النظام لصرف الأنظار عما يحدث بالداخل من احتجاجات وأزمة متفاقمة بين النظام والشعب، الذي يمتلك أولوية تفوق في أهميتها بمراحل مسألة مسمى الخليج العربي، وقد ظهر ذلك كله في واقعة النشيد الوطني الإيراني الذي لم يتردد على ألسنة أعضاء منتخب كرة القدم الإيراني أثناء بطولة كأس العالم الأخيرة في قطر، وكأن النظام يريد أن يقنعنا أن الإيرانيين الذين يشعرون بالغضب المتزايد ويرفضون كل مايمت للنظام بصلة، يستشعرون الغضب حيال مسمى الخليج!
هذا الإحتجاج الإيراني على سياسات العراق ومواقفه حيال اشقائه العرب والخليجيين لن تتوقف وستظل تسعى لتكبيل يد العراق وساسته من أجل الإلتزام بما تمليه إيران أو مواجهة غضبها بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات سياسية وحزبية وأمنية تؤثر سلباً في الداخل العراقي، والمعضلة تكمن في ضرورة إستيعاب النظام الإيراني لحاجة العراق الضرورية للتصرف كبلد ذي سيادة يجب على الجميع إحترامها وعدم التغول عليها. مواقف العراق المعلنة في تصريحات رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني هي مواقف موضوعية تستحق التقدير، فقد أكد على أن علاقات بلاده مع إيران تاريخية وأن هناك قواسم مشتركة ثقافية ودينية واجتماعية، وهذه حقائق لا يمكن إنكارها أو التنصل منها، لأنها ترتكز على واقع جيوسياسي ينطلق من وجود حدود مشتركة تمتد لأكثر من 1200 كم ومشتركات ثقافية ودينية ممتدة تاريخياُ. مواقف السوداني لم تقتصر على تأكيد الروابط بل أشار في تصريحات أدلى بها لمجلة "بيلد" الألمانية إلى ماوصفه بدعم إيران للعملية السياسية بالعراق منذ عام 2003، وأن طهران ساعدت في الحرب ضد الإرهاب، وهذه وجهة نظر عراقية رسمية تستحق الإحترام بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف معها، ولكن السوداني أشار في التصريحات ذاتها إلى مسألة مهمة للغاية وهي انه يريد "إدارة التعاون والدعم بعيداً عن التدخل في الشأن الداخلي"، وهذه نقطة مفصلية تحتاج إلى وقت طويل وجهود مضنية لإقناع طهران ونظامها بأن العراق ليس واحة إيرانية مستباحة وأنه بلد مستقل، لا يريد أن يكون طرفاً في سياسة المحاور، إقليمياً ودولياً، وأنه يسعى لبناء علاقات متوازنة مع دول الجوار "كافة"، وهذه مسلمات بديهية ينبغي ألا تكون موضع خلاف من جانب إيران.
قناعتي ـ كباحث ـ أن العراق ينتهج في المرحلة الراهنة سياسة عقلانية رشيدة يجب على جميع الأطراف ـ ولاسيما إيران ـ دعمها إن كان حقاً راغبة في تحقيق الأمن والاستقرار الاقليمي، فعدم دخول العراق في محاور مصلحة مشتركة للمنطقة بأكملها، ومحاولة إيران الهيمنة على قراره السيادي مآلها الفشل ولن تحقق سوى إبقاء العراق والمنطقة بأكملها في مربع التشتت وعدم الإستقرار. العراق يركز أيضاً على بناء الشراكات الاقتصادية وتبني مبادرات لتقريب وجهات النظر بين إيران والدول العربية باعتبار أن خفض التوترات مصلحة عراقية بحتة، وأن الإستقرار الإقليمي سينعكس على أمنه واستقراره، وهذا صائب تماماً، وومن الحكمة أن يدعم النظام الإيراني هذه التوجهات والسياسات العقلانية بدلاً من محاولة الزج بالعراق في صراعات وهمية وافتعال خلافات لا طائل من ورائها ولا هدف سوى ابقاء المنطقة في حالة التوتر التي يرى النظام الإيراني أنها إحدى مستلزمات بقائه على قيد الحياة.
- آخر تحديث :
التعليقات