الطفل لا يعرف أن "بابا نويل"، المحمّل بالهدايا لا يهبط من المدخنة يوم العيد، إلا بعد أن يصل إلى مرتبة من الوعي، تساعده على أن يكتشف "المؤامرة" البريئة التي يحيكها أبواه عليه. حال شريحة واسعة اللبنانيين مع زعمائهم ورجال أديانهم، كحال هذا الطفل البريء.

لم يصلوا بعد، إلى درجة من النضوج النفسي والفكري ليدركوا أن "الزعماء" أعداء لهم وأعداء لوطنهم، وأنهم "بابا نويل" من نوع آخر، وأن مؤامرته عليهم ليست بريئة، وأنه يأخذ أصواتهم، ويختلس ودائعهم، وهداياه علب براقة من الخارج، أما داخلها فوعود وهمية وخطب رنانة وكلام "لا يُسمن ولا يُغني عن جوع".

يعرف اللبنانيون مدى الجرائم التي ارتكبتها، ولا تزل ترتكبها القيادات السياسية في حقهم، وحق وطنهم، لكن شريحة كبيرة منهم ما زالت تصوت لهذه القيادات، وتعيدها إلى الحكم، مدفوعة بغرائز قبلية ودينية تتحكم بوجدانهم، تبعدهم عن الإيمان الصحيح، وتحول بينهم وبين أن يكونوا موطنين أحراراَ في دولة حرة. مدّجنون "مبنّجون"، لا فائدة منهم تُرتجى، عبيد يجعلون من السياسيين سادة عليهم وأوصياء، ويخلعون عليهم وشاح الزعامة. هذه القيادات مع ذلك، ليست وحدها من يرتكب الخيانة، ويستغل العصبية الدينية والقبلية لمصالحه. هناك رجال الدين أيضاً، وإثم هؤلاء لا يقل خطراً عن آثام رجال السياسة.

بالأمس وقف البطريرك "الماروني" يدافع عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ويضع خطاً أحمر لحمايته، وقبله وقف مفتي الجمهورية اللبنانية "السني" يدافع عن رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، ويضع خطا أحمر لحمايته. التفسير الوحيد لهذه الخطوط الحمر في نظر أي عاقل، هو تغليب الثقافة الطائفية على الثقافة الوطنية. البطريرك الذي يقال إن مجد لبنان أعطي له، لم يحافظ على هذا المجد، ساعة تدخل في شأن لا يعنيه، وليس من اختصاصه، ولا من اختصاص أي رجل دين، وخالف حتى رسالة "المسيح" القائل: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، والقائل:" تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"، والقائل ايضاَ: "ما نفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه"، فبأي حق وقف البطريرك إلى جانب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قبل أن يصدر في حقه حكم القضاء؟! وبأي حق يتدخل في السياسة ويقف مع الفاسدين على حساب المتعبين والثقيلي الأحمال من العباد، المنكوبين بأسوأ السياسيين في العالم؟!

الواضح أن البطريرك المطوّب من الكنيسة، يرى رياض سلامة "مواطناً مارونياً"، قبل أن يكون لبنانياً، ما يحملنا على التساؤل حتى من زاوية الجانب الروحي: هل حاكم المصرف المركزي ماروني حقاً، ومسيحي حقا، يعمل "بمشيئة الآب الذي في السماوات"، حتى يضع هذا البطريرك خطاً أحمر لحمايته؟! الواضح أن المسألة لا علاقة لها بالروحانيات، إنها مسالة مال وسياسة، ولا شيء غير المال والسياسة. ما يقال عن البطريرك، يقال عن المفتي، الذي اعتبر فؤاد السنيورة "سنيا" قبل أن يكون لبنانيا، ووضع خطاً أحمر لحمايته. مواقف هي تجاوز على سلطة القضاء، وتدخل سافر في شؤون هيئة يفترض أن تكون المرجع الوحيد للحكم على المواطن، مذنباً كان أم بريئاً، بغض النظر عن مرتبة المواطن الاجتماعية، وميوله السياسية أو الدينية، لأن القانون يعلو ولا يُعلى عليه، أو هكذا يجب ان تكون الأمور بأحكام الأرض وشرائع السماء. من يخالف القوانين ويعرقل سير العدالة في الدول الراقية يحكم عليه ويُسجن، ويعتبر فاسدا وعدوا للشعب والدولة.

نعرف أن أمراً كهذا لن يحصل في لبنان المزرعة، ونعرف أن رجال أديان بمنزلة البطريرك والمفتي والأمين العام في "حزب الله"، لن يقفوا في المحاكم ويتعرضوا للمساءلة القضائية، لذلك يبقى الحكم عليهم وعلى كل رجل دين بقوانين السماء، وهل في لبنان بعد، من قوانين غير قوانين السماء؟! عليه نقول للبطريرك، برسالة "المسيح" نحكم على من يؤمن بالمسيح المجّسد، ونقول للمفتي بالرسالة الإسلامية المجّسدة في القرآن نحكم على من يؤمن بالله ورسوله، وبهده الرسالة أيضأ نحكم على الأمين العام الذي هو رجل دين وسياسة، كما البطريرك والمفتي، وهو الذي لم يصدر تصريحاً واحداً يدين رياض سلامة، أو يدين سياسيين لبنانيين، يعرف القاصي والداني أنهم فاسدون، كأن مهمة هذه المراجع الدينية اللبنانية، هي الدفاع عن السياسيين الفاسدين، وعرقلة سير العدالة، لا رعاية حقوق المواطنين.

القرآن يقول للمؤمن: "لا تتبع سبيل المفسدين"، ويدعو الناس بالقول: "كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين"، ويقول في سورة أخرى: "إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
في لبنان الدولة التي تتداعى يوما بعد يوم، لا حكومة ترعى، ولا قضاء يحكم بالعدل، ولا مرجع روحياَ يلجأ إليه المواطن للشكوى والتظلم، تبقى شريعة الغاب هي القانون الغالب، يصنعه مجرمون من أهل السياسة، مستندين إلى نظام انتخابات طائفي، قائم على الكذب والنفاق، مدعوم من رجال الدين، ومن شريحة واسعة من الجهلاء الذين لا يعرفون مصالحهم، لذلك كان على اللبنانيين الذين فقدوا ثقتهم بالقيمين على أمور دنياهم، ان ينتظروا سنوات طويلة ليسمعوا صوت العدالة.

لم يأتهم الصوت من قضاء بلدهم، ولا من حكومة بلدهم، ولا من رجال أديانهم، أتاهم من بعيد، من دولة فرنسا العلمانية الحرة، التي أصدر قضاؤها حكماً هو بمنزلة صفعة بوجه النظام السياسي اللبناني، ومن يمثله وينتمي إليه، من رؤساء ووزراء ونواب، وبوجه نظام القضاء اللبناني الذي فقد هيبته، وبوجه" المرجعيات" الدينية اللبنانية كلها من دون استثناء، وهو دليل قاطع على أن الدولة الدينية ودولة الطوائف والمذاهب دولة فاشلة، وأن الدولة المدنية العلمانية هي "دولة الله" الوحيدة على الأرض، وما عداها من دول، جحيم في الأرض وجحيم في السماء!

يبقى السؤال: هل هناك من سيحاسب رجالاً يقولون إنهم يؤمنون بيوم الحساب وأشراط الساعة؟ لست أدري، لكن ما أنا منه يقين، أن المتعبّدين والمصلّين، وأتباع رجال الدين إلى يوم الدين، لن يحاسبوهم، وهل اتفق أن حاسبت خراف ضالة رعيانها في يوم من الأيام؟! قد نرى الخنازير تطير كما تقول العبارة الإنكليزية، لكن هيهات أن يحدث حساب مثل هذا في بلاد القبائل والمذاهب. لن يحدث اليوم، ولا في الغد ولا بعد الغد، ولست من السذاجة لأدعو "الله" ان يحاسبهم، كما يفعل الذين يتضرعون إليه من البسطاء، ويدعونه لينتقم لهم من طغاة الأرض.

"الله" يعرف شغله، ولا يحتاج إلى دعوة مخلوق مثلي، لأن كل نفس بما كسبت رهينة، كما جاء في القرآن، ولأن من تحررت نفسه من نزوات الأرض وتشبّعت بأشواق السماء، يعرف الصالح من الطالح، والقمح من الزؤان، ويعرف أن مواقف بعض رجال الدين، ما هي إلا رغبات أرضية، مآلها جهنم، ومن يأخذ العباد والبلاد إلى جهنم في الأرض، تهيئ له السماء بأعراف المؤمنين، ما يليق به من حساب، هذا إذا كان بين شعب أوصله زعماؤه إلى حافة الفقر والكفر، من لا يزال يؤمن بوجود سماء وحساب!