يتردد على مسامعنا: فلان صاحب جاه، ولكن هل يعني ذلك أنه صاحب مال؟ أو مكانة؟ أو منصب رفيع؟

وما علاقة هذا المفهوم بالمكانة الاجتماعية!

في كثير من الأدبيات والموسوعات المعرفية يدل الجاه على الحظوة والمنصب والمكانة والمنزلة الرفيعة التي يحتلّها الفرد في نسق ما، فهو يدل على السلطة التي تتوفر للفرد، وتمنحه القدرة على النفوذ والتأثير والغنى أيضاً.

ويؤكد العلامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع على واقعة التلازم بين الجاه والمال، لما له من دور مهم في كسب الثروة من دون سعي، فالجاه عنده هو: "القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمَن تحت أيديهم من أبناء جنسهم، بالإذن والمنع، والتسلّط بالقهر والغلبة؛ ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة".

إن الجاه مفيد للمال، بتعبير ابن خلدون، بل ومفيد حتّى لبناء السلطة وتصريفها، وهو ما يؤكده بالقول في مقدمته: "نجد صاحب الجاه والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه، والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال، يُتقرّب بها إليه، في سبيل التزلّف والحاجة إلى جاهه، فالناس مُعينون له بأعمالهم في جميع حاجاته، من ضروري، أو حاجي، أو كمالي".

⁠‫إن الجاه عند ابن خلدون لا يتحدّد في امتلاك المال فقط، وإنما هو بناء مستمر، ينتج عن تضافر جملة من العناصر، كالثروة والنسب والعصبية والكسب والقرب من الحاكم، بل إنه يمتد إلى حدود المنزلة الاجتماعية التي يحوزها المرء، وتمنحه - بالتالي - التأثير على الغير، فالجاه عنده هو النفوذ السياسي الذي يتمتع به المرء. فالمال من غير جاه لا يصنع النفوذ، ولا يسهم - بالتالي - في الرفع من مكانة المرء، ذلك أن "فاقد الجاه بالكلّيّة، ولو كان صاحب مال، فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله، وعلى نسبة سعيه، وهؤلاء هم أكثر التجّار".

⁠‫إلا أن ابن خلدون لا يجعل الجاه لصيقاً - وإلى أبعد حدّ ممكن - بالمال والثروة فقط، فالجاه مفهوم له دلالة رمزية أكثر منه مفهومًا ماديًا، فهو يدل على مكانة رمزية، ولهذا يربطه بالشرف، وما ينتج عنه من بناء للمكانة الاجتماعية، فليس هناك جاه واحد، ولا طريق واحدة إلى بلوغه واستثمار مفاعيله، فالجاه ليس واحداً، فهو متوزّع بين الناس و"مترتّب فيهم طبقة بعد طبقة، ينتهي في العلوّ إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية، وفي السفل إلى مَن لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه. وبين العلوّ والسفل "طبقات متعددة"، ينتظم من خلالها المعاش، وتتيسرالمصالح".