مقدمة
امتد بلاد الرافدين في المنطقة الواقعة بين النهران الخالدان دجلة والفرات وعلى جوانبهما. كان النهران يمثلان شريان الحياة لحضارات بلاد الرافدين، حيث انهما وفرا المياه الضرورية للحياة اضافة الى التربة الخصبة وطرق نقل أساسية مما مكن انتشار وتطور الزراعة والمجتمعات الحضرية والريفية التي مارس سكانها التجارة والصيد وكانت لهم إنجازات علمية وثقافية وقانونية. إن إرث هذه الحضارات الأولى لا يزال يرن في التاريخ البشري، وتأثير النهرين دجلة والفرات على بلاد الرافدين يظل فصلا هامًا في قصة حضارة الإنسان.

تأسست العديد من المدن القديمة في بلاد الرافدين بسبب وجود النهرين دجلة والفرات، وبعض أبرز هذه المدن القديمة هي أور وبابل (اوبوابة اله باللغة الأكادية القديمة) ونينوى (عرفت لاحقا بالموصل) وأشور وعدد اخر من المدن القديمة التي نشأت وازدهرت على مر التأريخ في بلاد الرافدين وقد انشائها الآباء الأولين مستفيدين من الظروف المواتية التي قدمها نهري دجلة والفرات ومثلت هذه المدن والعديد غيرها بداية الحضارات الانسانية المعروفة.

وضع العراق المائي والبيئي
العراق ومنذ عدة سنين بداء يعاني بشكل متزايد من الجفاف وتناقص مستويات المياه وقلة الأمطار اضافة الى ظاهرتي التصحر المتزايد والتغير المناخي، حيث ان العراق في مقدمة الدول التي تعاني من هذه الظواهر الطبيعية. كل هذا أدى إلى أزمة بيئية حادة لها نتائج سلبية على سكان العراق بشكل عام وكذلك على الاقتصاد العراقي الذي يعاني بالأساس من عدة عوامل اخرى تعيق نموه واستقراره.

هناك عدد من العوامل التي أدت إلى تفاقم أزمة المياه في العراق وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام منها: النموالسكاني السريع وتغير المناخ مع فترات جفاف ممتدة ومتكررة وتلوث الأنهار بسبب الإلقاء المتزايد للنفايات البشرية والصناعية اضافة الى اساليب وتقنيات ري غير كفؤة والتي تسبب بهدر المياه. كما ان بناء السدود على الأنهار وخطط اطلاق المياه من خزانات السدود بشكل غير مدروس وعلمي اثر بشكل واضح على كمية المياه في اسفل مجاري الانهار.

وادت كل هذه العوامل اضافة الى ازدياد الملوحة والتصحر إلى تشريد المزارعين ومربي الحيوانات والاسماك من أراضيهم الزراعية ومراعيهم إلى المراكز الحضرية التي تعاني بالأساس من تزايد أعداد سكانها ومشاكل اقتصادية وفي الخدمات.

أن نهري دجلة والفرات اللتان تؤمنان بحدود 90% من المياه العذبة للعراق قد انخفضت مستويات المياه فيهما حاليا بشكل غير مسبوق. حسب وزارة الموارد المائية العراقية فان نسبة المياه الجارية التي تصل الى العراق قد أنخفض من 80 مليار متر مكعب في سبعينيات القرن الماضي الى أقل من 50 مليار متر مكعب في العام 2021 (ناشونال نيوز: روبرت تولاست). أحد أسباب هذا الانخفاض هومنظومة السدود الجديدة في تركيا والمتكونة من 22 سدا بضمنها سد أتاتورك على نهر الفرات الذي اكتمل العمل به في العام 1990 وسد إليسوعلى اعالي نهر دجلة والذي بداء العمل في ملء خزانه المائي في العام 2018.

أما بالنسبة لايران فأنها قد حجبت في السنين الاخيرة المياه كليا اوجزئيا عن روافد نهر دجلة، وكمثال فان نهر الزاب الصغير (الاسفل) وهواحد الروافد الرئيسية لنهر دجلة قد تم خفض مستوى جريان الماء فيه في السنوات الاخيرة الى حوالي 70% تقريبا من مستويات العقود السابقة. اضافة، فان افتقار العراق الى انظمة حوكمة فعالة لإدارة المياه، والاستخدام غير الرشيد للمياه من قبل القطاعات الزراعية والصناعية والتجمعات السكانية قد زاد من الضغط على الموارد المائية المحدودة.

أن الانخفاض المستمر لمستويات المياه في العراق له تأثيرات مدمرة على قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية والتي هي مصدر رزق لملايين العراقيين اضافة لكونها قطاعات اقتصادية هامة وممكن ان تساهم، اذا تم استغلالها بشكل علمي ومدروس، بتنويع مصادر الواردات للدولة للابتعاد عن الواقع الريعي الحالي حيث ان واردات العراق اليوم تعتمد بنسبة تفوق 90% على واردات النفط.

التغيرات المناخية في العراق والتي تميزت بازدياد معدلات درجات الحرارة بنسبة ضعفين عن المعدلات العالمية، ومعدلات النموالسكاني التي هي بحوالي 2% من المجموع الكلي للسكان والبالغ تقديريا في العام 2023 بأكثر من43 مليون (عدم وجود تعداد سكاني حديث. اخر تعداد عام للسكان كان العام 1997)، هي عوامل اضافية هامة مسببة لازدياد الطلب على المياه في حين ان معدلات توفر المياه في العراق وكما اسلفنا قد انخفضت بنسب عالية.

الهجرة بسبب نقص المياه والعوامل البيئية في العراق
وفقًا لدراسة اجرتها منظمة الهجرة الدولية IOM في عشرة محافظات عراقية انه بحلول نهاية عام 2021 غادر حوالي 20،000 شخص مناطق سكناهم الاصلية المتأثرة بالجفاف والظروف المناخية القاسية الى مناطق اخرى بسبب نقصان المياه وبحثًا عن فرص اقتصادية ووسائل عيش جديدة في مناطق تتوفر فيها امكانيات افضل للعيش والعمل، بينما وجدت دراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين Norwegian Refugee Council في نفس العام 2021 اضطر فرد واحد من كل عائلة من 15 عائلة شملتهم الدراسة في المناطق المتضررة من الجفاف على الهجرة بحثا عن عمل.

بشكل عام فان الهجرة البيئية في العراق لها تبعات اقتصادية سلبية عل البلد برمته. إن هجرة الفلاحين ومربي الحيوانات وصيادي الأسماك الذين يضطرون الى مغادرة مناطق سكناهم والتخلي عن سبل عيشهم التقليدية بسبب ندرة المياه وتدهور نوعية التربة في حقولهم ومراعيهم، تؤدي إلى انخفاض في الإنتاج الزراعي والحيواني ومخزون الأسماك. هذا، بدوره يؤثر سلبا على الأمن الغذائي ويسهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

المهاجرون بسب الظروف البيئية (وحتى المهاجرين بشكل عام) الى مناطق اخرى داخل العراق سيمثلون عبئا اقتصاديا على المجتمعات التي ينتقلون اليها لانهم سيتنافسون على الموارد الاقتصادية والخدمية وعلى فرص العمل المحدودة. أما اذا كانت الهجرة عبر الحدود، فأن دول جوار العراق مثل تركيا وسوريا وايران تعاني من ظروف اقتصادية صعبة وموارد مالية وامكانيات خدمية محدودة، كما ان قسم من هذه الدول مثل تركيا والاردن قد عانتا ولسنين عديدة من ضغط اللاجئين السوريين ولا تتوفر لديهم الامكانيات لاستقبال اعداد اخرى من اللاجئين.

كما يجب ملاحظة ان الدول المانحة والداعمة للاجئين والنازحين تنظر الى العراق كدولة غنية اوعلى الاقل دولة متوسطة الامكانيات وعليه فانهم يتوقعون من العراق ان يتكفل بالأعباء المالية اوعلى الاقل الجزء الاكبر منها لإيجاد حلول مستدامة لمشكلة النزوح البيئي ومسبباتها.

كما ان المهاجرين ممكن ان يصبحوا هدفا لعصابات الهجرة غير الشرعية والمتاجرين بالبشر لتحقيق اهدافهم الشريرة والكسب المادي غير المشروع، مثلما يحدث مع المهاجرين غير الشرعيين أثناء محاولاتهم لعبور البحر الابيض المتوسط الى شواطئ اوروبا الجنوبية..

ماذا يجب على العراق عمله
للحد من الاثار الكارثية المتوقعة للتغيرات البيئية بسبب نقصان المياه والتغيرات المناخية، على العراق ان يتبنى استراتيجية بعيدة المدى تتكون من شقين وهما:

خطة للتعامل مع دول المنبع: هذه الخطة يجب ان يكون هدفها تحديد والبدء بتنفيذ الية التفاوض مع دول المنبع عل أسس الاتفاقيات الثنائية والإقليمية والدولية مثل الاتفاقية الإطارية حول قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية والتي اعتمدت من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 21/5/1997 Convention on the Law of Non-Navigational Uses of International Watercourses. وكذلك قانون طبقات المياه الجوفية العابرة للحدود الذي تم مناقشته في الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2009.

كما يمكن للعراق ان يستفاد من علاقاته مع عدد من دول العالم التي تستطيع ان تساهم في رسم تفاصيل اتفاقيات جديدة بين العراق ودول منبع دجلة والفرات لضمان وديمومة حصة عادلة للعراق من مياه هذين النهرين الدوليين.
أضافة، فان العراق يجب ان يدخل في مناوراته التفاوضية حسابات تجارية واقتصادية ممكن ان تساهم في دعم موقفه لضمان حصته العادلة من المياه.

خطة محدثة لتنظيم لترشيد ادارة وتنظيم استعمال المياه: يتوجب على العراق تطوير الأطر القانونية والتنظيمية والفنية لإدارة الموارد المائية ومراجعة تسعير المياه لتحسين تخصيص الموارد المائية وتنظيمها والحفاظ عليها. كما يجب استخدام نظم المعلومات الحديثة واستخدام أنظمة الرصد الجوي والأقمار الصناعية للتنبؤ بالأحوال الجوية وكميات الامطار ورصد مستويات الموارد المائية وبيانات عن العوامل الطبيعية المؤثرة عليها وتحليل المعلومات المتحصلة بغرض اتخاذ القرارات المناسبة المتعلقة بإدارة المنظومة المائية.

كما ويتوجب نشر ثقافة ترشيد وتقنين استخدام المياه وتجنب الهدر في القطاعات الزراعية والصناعية والسكنية. في هذا المجال يمكن الاستفادة من التجارب الناجحة لدول اخرى مثل الاردن المجاورة التي تمكنت من ادارة مواردها المحدودة من المياه بنجاح للاستخدامات المنزلية والزراعية.

التغيرات المناخية والجفاف وقلة المياه في العراق ليست ظواهر موسمية أو وقتية إنما تحديات مناخية وبيئية طويلة الأمد، فهي لن تختفي بانتهاء فصل الصيف بل ستسمر وتزداد شدتها سنة بعد اخرى ما لم تستمر الحكومة العراقية باتخاذ الاجراءات الضرورية لتقليلها والسيطرة على اثارها.