رَحَل عن عالمنا أول أمس عَن عُمر ناهز الـ82 عاماً، تاركاً فراغاً كبيراً لدى مُحِبّيه، الممثل الأمريكي رايان أونيل، بطل فيلم "قصة حب" الرومانسي الأسطوري، الذي حقق أرباحاً بلغت 60 ضعف ميزانيته، والذي أنتجَته بارامونت، وعُرِض في الولايات المتحدة لأول مرة في16 ديسمبر1970. عَرَفته وشاهدته أجيال عديدة، ولا يزال وسيَبقى إيقونة لقُصص الحُب التي يعيشها العُشّاق بمَشارق الأرض ومغاربها. آلاف الأطفال حول العالم أطلِقَت عليهم إسماء شخصياته الرئيسية جيني وأوليفر! وملايين العُشّاق إستمَعوا لموسيقاه في ذروة هيامهم بمَن يُحِبّون، وإستلهموا مشاهِده في لحظات غَزَلهم، كاللعب بالثلج والقُبلات تحت المطر والزفاف في سيارة كلاسيكية. بدأ أونيل حياته كملاكم هاوي، ثم جائته الفرصة عام 1970 ليُحقق إنجاز عُمره في فيلم "قصة حُب" مع آلي ماغرو. بعدها بعامين ظَهَر إلى جانب باربرا سترايسند في فيلم "ماذا يا دكتور" للمخرج بوغدانوفيتش. عام1973 ظَهَر في فيلم بوغدانوفيتش الثاني "القمر الورقي" وتم ترشيحه لجائزة غولدن غلوب. تلتها مشاركته لماريسا بيرينسون بطولة فيلم "باري ليندون "، الذي كتبه وأنتجه وأخرجه ستانلي كوبريك. لكن يبقى "قصة حُب" العلامة الفارقة الأهَم والأبرَز في حياته.
"قصة حُب" ليس عنواناً فقط، بل حَبكة مُتكاملة تُبقيك مَشدوداً لأكثر مِن ساعة ونصف. يَنحَدر الشاب أوليفر باريت (ريان أونيل) من طبقة نبلاء أثرياء في الساحل الشرقي الأمريكي، ويُخاطب والده بـ"سيدي". أما جينيفر كافاليري (آلي ماغرو) فهي فتاة مِن أصول إيطالية مِن الطبقة العاملة، والدها الذي تسميه بإسمه الأول "فيل" هو صاحب محل مُعجنات وفَطائر. كانت جيني فقيرة مادياً، ولكنها كانت غنية بصِدق مشاعرها تجاه أوليفر، وهو ما أعجبه فيها، وجعَله يتعَلق بها، ويُقرّر الزواج منها، رَغم إعتراض والده، الذي يقطع عَنه دَعمه المالي. لكن سَعادتهم لا تدوم طويلاً، فعندما بدأت مِهنة أوليفر الواعِدة كمُحام، صُدِموا بإصابة جيني بالسرطان، وبأنها ستموت في غضون أسابيع قليلة. لذلك فإن قصة حُب الفيلم ليست من الخيال، بل من الحياة اليومية، فهو يُظهر مُعاناة الأزواج الشباب في بداية حياتهم، حينما يكون دَخلهم ضعيفاً، وعليهم تغطية نفقاتهم دون مُنحة دراسية أو عائلة ثرية، وكيف أن الكفاح اليومي من أجل العيش كان يتطلب منهم تضحيات، كأن يَضطر أحَدهم أو الإثنان للعمل لتمويل دراستهم، وهو نموذج كان منتشراً بين الأزواج الشباب في ذلك الوقت.
هذا هو أحد أسباب نجاح "قصة حُب"، فقد أحبه الملايين لأنهم تعرفوا على أنفسهم في مَحطات الحياة التي عاشاها جيني وأوليفر، فيما إهتمت الدراما بالباقي. النهاية غير العادلة للفيلم، عَكَسَت مشاعر ملايين الشباب عام 1970، الذين تحطّمت أحلامهم بعالم أفضل بعد سلسلة أحداث شهدها هذا العالم. منها على سبيل المثال لا الحصر حرب فيتنام. فحينها بدا العالم بعيداً عن السلام والحب أكثر من أي وقت مضى، وتوصل الكثيرون الى قناعة أن الحياة غير عادلة، ولم يكن هناك غير الشفقة على الذات. في هذا المزاج تحديداً إستحوَذ "قصة حُب" على قلب جمهوره، لأنه جاء لهم كمتنفس صِحّي للتخلص من الألم. وأين يُمكن لهذا أن يحدث أفضل من السينما؟ فمثلما حَزن أوليفر على وفاة جيني بفعل السرطان في نهاية الفيلم، حَزن المشاهدون على أحلامهم التي ماتت بفعل أمراض واقعهم. الرسالة التي أراد المخرج آرثر هيلر إيصالها مِن خلال الفيلم، عبر رؤيته السينمائية لرواية أريك سيغال، كانت وقتها في غاية الأهمية، رسالة تتناول حُب عميق واقعي في زمن إضطرابات سياسية وصَخب مُجتمعي (حرب فيتنام والهيبز)، كانت السينما الأمريكية مُنشغلة حينها بإثارة مَواضيعها.
لقطات وزوايا تصوير رائعة وذكية، سيناريو عَميق مليء بروح الدعابة، يَصل ذروته في عبارة "الحُب هو أن لا تضطر إلى قول إنك آسف". التي تقولها جيني لأوليفر حين يعتذر لها، بعد أن تتّصِل بوالده وتطلب منه التحدث معه، وهو يَرفض ويَصرخ في وجهها، فتخرج ليلحق بها باحثاً عنها في كل أرجاء المدينة، في واحد من أروع مشاهد الفيلم مَصحوباً بخلفية موسيقى تصويرية رائعة، مَبنية على توزيع أوركسترالي لثيما الفيلم الخالدة. وهي نفس الجملة التي يكرّرها أوليفر لوالده في لقطة النهاية، حينما يُعبر له عن أسفه لرحيلها. ثم كرّرَتها الأسطورة بربرا سترايسند في الفيلم الذي جمعها بأونيل عام 1972. كانت أجواء وديكورات الفيلم بسيطة، إذ تم إنتاجه بميزانية متواضعة، مليونان، مقارنة بأكثر الأفلام التي أنتِجت في زمانه، لكنها لم تحقق أرباحه ولم تُخلد قصصها كما فعل. أجواء نيويورك التي يعرضها الفيلم روتينية، وليسَت دعائية من النوع الذي يدعوك للذهاب إليها، حتى جامعة هارفَرد المَهيبة التي تمثل أحد مواقع قصة الفيلم الأساسية يلفّها الحُزن، إلى جانب مناظر طبيعية شتوية رمادية، مَشوبة بحزن خفي يُنذر بالمَجهول، لا تُشِعر المُشاهد بأي إبتهاج حقيقي، حتى لو كان العشقان يتدحرجان بسعادة في الثلج. فالقصة واقعية بمَعنى الكلمة عَن شاب مِن عائلة ثرية يقع في حب فتاة من عائلة بسيطة. يقول إريك سيغال مؤلف الرواية وكاتب سيناريو الفيلم، أنه إستلهم شخصية البطل أوليفر من بعض الطلاب الذين إلتقاهم في هارفرد، كتومي لي جونز الذي لعب دوراً مساعداً في الفيلم، وبات بعدها من أساطين هوليوود. أو آل غور، الذي أصبح فيما بعد نائباً للرئيس الأمريكي، والذي صَرّحت زوجته تيبر مرة بأنها رأت نفسها في بطلة الرواية جيني.
كان للمُمَثلَين الرئيسيين، رايان أونيل وآلي ماغرو، دوراً أساسياً في نجاح الفيلم، بفضل تألقهما وتلقائيتهما بأداء أدوارها. لا يُهم ما إذا كان يَهيم بها حُبّاً أثناء عَزفها للموسيقى، أو أنها تغازله أثناء التزلج، فهنالك دائماً شغف كبير بينهما، وشَوق غامِر يجمعهما، ولا يمكن إغفال فيض الحب التي ينهمر مِن أعينهما. كلاهما رُشِّح بحَق لجائزة الأوسكار، لكنهما للأسف لم ينالاها، وكانت هذه على ما يبدو أخر فرصة لهما لنيل الجائزة، بعد أن بدأ نَجماهُما بالخفوت بعد الفيلم، ليس لضُعف أدائمها أو تراجع موهِبتهما، بل بسَبب ظاهرة عاشَها الكثير من المُمثلين الناجحين بعد أدائهم أدوار خالدة في أفلام ناجحة، تبقى مَرجعاً للجمهور والنقاد والمُنتجين والمُخرجين الذين يقارنوهم بها دائماً. فبعد الأفلام والأدوار الناجحة يبدأ المُنتجون والمُخرجون بالتوجّس من التعامل معهم خوفاً من أن يرفعوا سَقف أجورهم، ويأخذ الجمهور بمقارنتهم بما عَلق بذهنه من صورة لهم، ويبدأ النقاد بمقارنة أدائهم اللاحق بأدائهم السابق. فمِن المدهش أن نظرة على فيلموغرافيا ماغرو تكشف بالكاد ست أفلام أخرى لها بعد "قصة حُب". كما لم يتمكن أونيل من النجاح بعده سوى في محطات محدودة من مَسيرته السينمائية، مثل فيلم "ماذا يا دكتور" عام 1972 بجانب باربرا سترايسند، وحَتى فيلم "قصة أوليفر" الذي إعتُبِرَ بمثابة جزء ثاني لـ"قصة حُب" وبُنيَ على رواية بنفس الإسم ألفها سيغال كتتمة لروايته الأولى، والذي قام أونيل ببطولته، لم يكن له بريق سِلَفه، رغم جماليته وواقعية قصته، التي جائت لتؤكد أن جيني هي حُب أوليفر الوحيد، ولا يمكن لأي إمرأة أخرى أن تحل محلها وتشغل مكانها في قلبه الذي لم يتوقف عن حُبها والحُزن على رحيلها. عام 2015 قام النَجمان بجولة في الولايات المتحدة، قدّما خلالها مسرحية "رسائل حُب"، إستعادا فيها تجربة عملهما الفريدة في "قصة حُب".
طبعاً كان الفيلم لينقصه الكثير، بدون جملته الموسيقية الأسطورية، التي باتت أيقونة موسيقة عالمية للحُب، أبدَعتها مُخيّلة الموسيقار فرانسيس لاي، والتي تتكرر على طول الفيلم بتوزيعات مختلفة تتناسَب مع أجواء مشاهده، حتى باتت جُزئاً لا يتجزأ من روحه، وسَبباً أساسياً من أسباب خلوده، فإستحقت لذلك أوسكار أفضل موسيقى لعام 1971، مِن بين سبعة ترشيحات (أفضل صورة، أفضل ممثل مساعد، أفضل ممثلة، أفضل ممثل، أفضل مخرج وأفضل سيناريو)، وهو ما رآه الكثيرون ظُلماً لعَمل سينمائي كان يستحق أكثر من ذلك بكثير، وظلماً لتأريخ السينما عموماً. خصوصاً إذا علِمنا بأن معهد الفيلم الأميركي قد صّنّف "قصة حُب" كأحد أفضل10 أفلام رومانسية في تأريخ السينما على الإطلاق! لكن بعد 50 عاماً من عرض الفيلم، تم تخليد ماغرو وأونيل بنجمَتان على مَمشى مشاهير هوليوود.
مع فرح فاوست ورَحَلت عَنه في الواقع بسبب السرطان
لم يكن "قصة حُب" قريباً من الواقع في أحداثه فقط، بل وأيضاً في نهايته، التي ربما أراد لها مؤلفها أن تكون تراجيدية. فكما فَقَد أوليفر حبيبته جيني ورَحَلت عَنه في الفيلم بسبب السرطان، فَقَد أونيل حبيبته النجمة الراحلة فرح فاوست ورَحَلت عَنه في الواقع بسبب السرطان، ورحل هو عَنّا قبل أيام بعد صراع مع سرطان الدم الذي أصيب به عام2001، وسرطان البروستاتا الذي أصيب به عام 2012، فهذه هي سُنّة الحياة، وهكذا هي عادة نهاياتها! كان ولده باتريك أول من أعلن خَبَر وفاته، وعلق قائلاً "كإنسان، كان والدي كريماً، وأطرَف شخص في المكان والأكثر وسامة، لكن أيضاً الأكثر سِحراً. كان يُحِب أن يجعل الناس يضحكون، لا يهم الموقف، إذا كانت هناك مُزحة مُمكِنة يُلقيها. لقد أراد حقاً أن نضحك، وقد ضحكنا جميعا في كل مرة". كما نَعاه زملاءه، مثل آلي ماغرو وباربرا سترايسند وميا فارو ووليم شاتنَر. فقد وَصَفت ماغرو تعاونهما بـ"أحد أعظم التجارب في مسيرتي السينمائية"، وأضافت "لقد كان مُمثلاً موهوباً ساحِراً ومَرِحاً أيضاً". وكتبت باربرا سترايسند "كان خبر وفاته حزيناً جداً"، وعلّقت في إنستغرام حول صورة مشتركة لهما "كان ساحِراً ومُضحكاً وسَيبقى في الأذهان". كما كتب ويليام شاتنر على تويتر "تعازي لعائلة رايان. كان مُمثل مَوهوب وصَديق رائع". أما ميا فارو، فنَشَرت على إنستِغرام حول عدد مِن الصورالمشتركة بينهما "أرقد بسَلام عزيزي رايان".
التعليقات