العملية العسكرية لحماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، وما تبعها من الحملة المسعورة والوحشية لإسرائيل على أهالي قطاع غزة بحجة "الدفاع عن النفس"، بقدر ما حركت الأجواء الراكدة للقضية الفلسطينية وأعادتها إلى واجهة المشهد السياسي الدولي والعالمي، حركت المياه أو نفخت الروح الأخيرة في ما تبقى من أطلال الأيديلوجية القومية والفكر العربي المطرز بتاريخ الأمبراطورية الاسلامية. وكان المقال الأخير للشاعر أدونيس واحداً من إرهاصات تلك الأجواء، ونشر في جريدة "الأخبار" اللبنانية بتاريخ 4 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بعنوان "نحو صورة جديدة للمسلمين والإسلام - بيان لا يلزم غيري"، فيه يحاول أدونيس نفخ الروح في الفكر القومي والروح القومية عبر التذكير بتاريخها التليد، بعد أن أصبح ذلك الفكر وتلك الروح من معالم الحرب الباردة وسنوات الاستعمار التي انطوت صفحتها. يمكن وصف مقال أدونيس بأنه أقرب إلى رثاء للوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي مما هو نقد للواقع الإسلامي والعربي من منظار شعبوي ورومانسي، ماسكاً أدوات قديمة في محاولته الأخيرة للإصلاح ما فشل فيه أقرانه باستخدام نفس الأدوات التي يمسك بها أدونيس لعلاج الواقع العربي، إذ كما يقول أينشتاين إنَّ من يتوقع الحصول على نتائج جديدة من تجربة قد فشلت من قبل، فهو الجنون بعينه.

*****

إنَّ "المعضلة" تكمن في منظار المثقفين ومنظري الفكر القومي العربي، لحماس، وما قامت به في السابع من أكتوبر؛ هل تصب نتائجها في إعادة الوهج للأيديولوجية القومية العربية وتعيد لها الأمجاد التي علت فيها الرايات الإسلامية في بلدان فارس والشام وجبل طارق والأندلس، أم ستعمل على إعادة الروح للإسلام السياسي، بعد أن تم إغراق الأدبيات السياسية والخطاب العربي على العموم بمقولة "الصحوة الإسلامية"، وخاصة بعد ما يسميه أدونيس "الربيع الغربي" الذي سنعرج عليه لاحقاً؟

أي بعبارة أخرى هل حماس هي جزء من الحركة القومية العربية بأجنحتها المختلفة مثل الناصرية والبعثية وغيرها التي رفعت في يوم ما شعارات "تحرير الامة العربية عبر تحرير فلسطين"، و"أمة العرب من البحر إلى الخليج"، و"فلسطين القلب النابض للأمة العربية"، أم أن حماس هي جزء من تيار الإسلام السياسي الذي وقع في قطيعة تامة مع التيار القومي العروبي، ووقف بالضد من جميع الأنظمة القومية العربية وكفرها وبدأ صراعاً مفتوحاً معها على السلطة السياسية؟

هذه الأسئلة طرحها ضمناً أدونيس في مرثيته لواقع المسلمين حسب وصفه؛ هل يمكن للمسلمين اليوم، في مُواجَهَة الغرب السِّياسيّ، أن يُعطوا لإسلامهم صورةً جديدة تليقُ بتاريخه المُضيءِ العظيم، في ضَوء التّجربة التي تعيشها غزّة ــ حياةً ورمزاً ــ غزّة الحاضر، وغزّة المستقبل؟

اليوم، وفي خضم حرب إسرائيل على غزة وتحقيق حماس الإنجاز العسكري في السابع من أكتوبر عبر توجيه ضربة موجعة إلى إسرائيل فيما فشل التيار القومي في تحقيق ما حققته حماس، بل وراحت جميع أجنحته بتقديم التنازلات والقبول بالسياسة الأميركية والغربية، ووضع جانباً، القضية الفلسطينية هي "القضية المركزي للأمة العربية" والدخول في صفقة القرن وسياسات التطبيع مع إسرائيل، وبتحويل كل القضية الفلسطينية إلى بلدة صغيرة حدودها الضفة الغربية تقودها حركة فتح القومية وتطوقها المستوطنات الإسرائيلية، نقول في خضم تلك الحروب يعاد إلى الاذهان ويوضع على طاولة التيار القومي سؤال لطالما أرق القوميين العرب بالدرجة الأولى: لماذا فشل المشروع القومي العربي، والذي كان يقول أحد عناوينه العريضة إنَّ تحرير فلسطين طريق لتحرير الأمة العربية؟

هذا السؤال هو ما يؤرق أدونيس، وما بقي في خلد جيل لطالما ضحى بكل شيء من أجل رؤية "الأمة العربية" في مسار الأمم المتقدمة، وقد جددت عملية حماس الأوجاع القديمة لدى هذا الجيل الذي ما زال ينتمي إلى التيار القومي العربي وأحلامه الاقتصادية والسياسية التي بددها النظام الإمبريالي العالمي ورمى بفتات من حصتها الرأسمالية لها، وفرضت شروطها للحصول على مكانتها غير اللائقة من منظورها في التقسيم العالمي للإنتاج الرأسمالي.

*****

يقع أدونيس في تناقض صارخ، حيث يحاول نقد الواقع العربي والإسلامي، الذي هو في الحقيقة أقرب إلى الرثاء كما أسلفنا من خلال نفس المنهجية للسياسة الغربية في المنطقة والعالم، التي يوجه سياط نقده عليها، تلك المنهجية هي المنهجية الأخلاقية والمثالية وإسداء النصيحة، بتصوير "الربيع العربي" كإحدى إفرازات السياسة الغربية في المنطقة أو كما يسميها بـ"الربيع الغربي"، وفي استنتاج مفاده أن تخلف المسلمين سببه فشل التجديد في الإسلام والتاريخ الإسلامي، يظهر اشمئزازه من "الإسلام المتعثمن"، حيث يقول أدونيس: "وعلينا هنا ألّا نملَّ أبداً من التّذكير بالواقِع الأسود، على جميع المستويات، الواقع الذي يعيشه المسلمون في مُعظَمِهم والذي يتمثّل في أنّ القائدَ الأوّلَ لهذا الواقع الأسود هو الإسلام المُتَعَثْمِن في عباءة الإخوان المُسلِمين"، أي الدولة العثمانية، لينظم إلى أسلافه من الذين عاصروا الدولة العثمانية وأعلنوا تجديدهم للإسلام مثل عبد الرحمن الكواكبي ورافع الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهم، وأخيراً يقوم بترسيم حدود المواجهة في معركته الأخيرة، ويسميها جبهة المسلمين في مواجهة جبهة الغرب الأميركي.

*****

يبدأ أدونيس مقاله بروايته لحادثة عن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين، عندما أنقذه علي بن أبي طالب من سوء تقدير في الحكم على امرأة وجهت لها تهمة كيدية، عبر "الجملة" التي قالها عمر (لو لا علي لهلك عمر) ويترجمها أدونيس معنوياً ومجازياً "لولا العدالة لهلكت السلطة"، محاولاً مسك العصا من الوسط، بين أتباع علي بن أبي طالب وبين أنصار عمر بن الخطاب، ليترفع عن التقسيم الطائفي الشيعي والسني الذي يضرب في جذور التاريخ الإسلامي، ويرفع راية موحدة ووسطية. ولم يقف عند هذه الحدود بل راح يختزل كل التاريخ الإسلامي والدماء المضرجة في كل صفحاته لإعادة إنتاج الخطاب القديم أو إعادة الروح له عبثاً برسم صورة ذهنية ناصعة ونقية وخيالية عن فترة حكم عمر بن الخطاب الذي وصفه "بثقافة السّلطة والإدارة والعدالة"، بينما وصف فترة حكم علي بن ابي طالب الخليفة الرابع للمسلمين "بثقافة الحرّيّة والحقّ والنُّبْل". ويدرك أدونيس، وهو صاحب الكتاب - أطروحة الدكتوراه "الثابت والمتحول"، بأنَّ هناك تاريخاً من الصراع بين الطرفين على السلطة السياسية. هذا الصراع يُفتتح في التاريخ الإسلامي قبل أيام من موت محمد، ويدشن بعد ساعات من موته في سقيفة بني ساعدة بين أبو بكر وعمر واتباعهما من جهة وبين الأنصار من جهة أخرى صراعاً على السلطة، وعلى من يخلف محمد، والذي تطرح الشكوك حول سبب وفاته بدس السم له، كما يروي لنا كتاب "الأيام الأخيرة لمحمد" الصادر عام 2016 للكاتبة التونسية هالة الوردي، وتقول إن جسد النبي بقي دون دفن ليومين ليتعفن، وكان علي وحده مشغولاً به، وأثناء مراسم الدفن لم يحضر أي من الصحابة، ولا حتى أقرب الناس إليه مثل عمر وأبو بكر، لانشغالهما بالصراع على السلطة. بل وتروي الوردي أنَّ عمراً منع محمد في أيامه الأخيرة من مرضه من كتابة وصيته التي كانت تشير إلى تولي علي بن أبي طالب السلطة أو أمور المسلمين من بعده، ويحتدم الصراع بعد ذلك ليبلغ ذروته في تصفية عثمان بن عفان، الخليفة الثالث للمسلمين، واتهام علي بن أبي طالب وأتباعه بالوقوف خلف الاغتيال، لينتهي الصراع في حرب الجمل، التي كانت عائشة تقود الجيوش فيها ضد علي انتقاماً وتأثراً لدم عثمان بن عفان بحسب الروايات التاريخية المعروفة، وهي، أي عائشة، الزوجة الغالية على قلب محمد النبي ورسول كل العرب. ثم يشن حربه في صفين على معاوية بن أبي سفيان، ثم تليها الحروب الدموية الطاحنة بين أتباع الطرفين، إلا أن أدونيس يحاول تقويض كل التاريخ الدموي بجملة قالها عمر بحق علي، وبصورة ذهنية اختلقها لنفسه وأراد تسويقها للعالم. وتعلمنا حرب إسرائيل على غزة، كم أن الحظ حالفنا بأن نعيش في عصر التقدم التكنولوجي والإنترنت وتوسع الإعلام بكل أشكاله المرئي والسمعي والبصري ووجود شبكات التواصل الاجتماعي للكشف عن الحقيقة، وقد دحض ذلك الاعلام الرواية الإسرائيلية عن عملية حماس بأنها ارتكبت جرائم ذبح الأطفال واغتصاب النساء، وأفشلت كل مزاعم إسرائيل بتبريرها لعمليات القتل الممنهجة والبربرية بحق الفلسطينيين. وما نريد أن نقوله في هذه المسالة إذا كانت إسرائيل وفي ظل كل هذا التقدم التكنولوجي تحاول تسويق روايتها عن السابع من أكتوبر وهناك من صدقها، فكيف لنا أن نتحقق من تلك الروايات التاريخية عن الإسلام والتي تأتينا دائماً عن أبي فلان وفلان وعلان ورواه فلان وهكذا دواليك. ويقص لنا التاريخ الذي قرأناه في المدارس وكذلك الكتب التي حصلنا عليها ووفقها: أن عثمان بن عفان جمع القرآن وحرق جميع المصاحف الأخرى، وعرف النظام الخليفة الثالث للمسلمين بالفساد والمحسوبية وتفشي الظلم بكل أشكاله، وهذا ما درسناه في الكتب المنهجية في المراحل الرابع الإعدادي او ما يقابله المرحلة العاشرة، أي في المدارس التي كانت تديرها وتشرف عليها الأنظمة القومية العربية، وحسب منطق ذلك التاريخ، نستنتج أن عثمان جمع الآيات والسور القرآنية التي تخدم نظامه السياسي، بينما تخلص من تلك التي لا تخدم نظام حكمه، كما أن الاحاديث النبوية جمعت أو كتبت بعد 150 سنة من موت محمد، فكيف لأدونيس أن يتحقق لنا من الجملة التي قالها عمر بن الخطاب ومن التاريخ الناصع الذي يستشهد به كي يقتدي "المسلمين" به! ليس هذا فحسب، بل إن علم الآثار لم يكتشف ولم يثبت إلى الان وجود ذلك التاريخ كما يقول المؤرخون، وأبرزهم الدكتور خزعل الماجدي. مع هذا، وبغض النظر عن صحة الرواية التاريخية التي يوردها أدونيس، هل يمكن تجاوز كل ذلك التاريخ الدموي وحصره بجملة واحدة لإثبات حقانيته الفكرية ونقده وكتابة علاج للواقع العربي على أساسه؟

إن المعضلة الثانية في نقد أدونيس للواقع العربي والإسلامي هي نفس المعضلة التي وقع فيها جميع المثقفين والمفكرين القوميين العرب، وهي الانتقائية من التاريخ وفي أحيانٍ عديدة يحاولون لوي عنق التاريخ إلى حد كسره، وغض الطرف أو حجب الرؤية عن الحقيقة، مثلما تفعل النعامة بدفن رأسها في الرمال كي لا ترى الخطر الذي يحدق بها، وهم يمدون يدهم إلى عمق التاريخ لاصطياد الأمثال والحوادث والجمل التي تخدم مشروعهم السياسي، وهو يعد في جانب منه جزءاً من خطاب شعبوي يحاول دغدغة المشاعر الرجعية للجماهير، وإبقاء هذه الجماهير أسيرة التقاليد الفكرية والاجتماعية البالية، بدل توعيتها وتسليحها بمنهجية نقدية وموضوعية للتاريخ. إنَّ منهجية أدونيس تصب في خدمة الإدامة والاستمرار الفكري والسياسي لتلك التيارات؛ إنها منهجية في البحث عن الهوية وتثبيتها وبالتالي فرضها ووصم المجتمع بختم القومية والدين. وفي الوقت الذي يمجد ذلك التاريخ الإسلامي ويتباهى به، يحاول تقديمه للعالم العربي نموذجاً للاحتذاء به ((وها هو إسلامُ هذا الجمهور يبدو اليوم، في الممارسة وفي النّظَر، أنّهُ عالَمٌ ليس فيه من الإسلام إلّا الاسم والشّكل، وليس فيه من سياسة النّبيّ أو عمر أو عليّ وفكرِهم إلّا الاسم والشّكل أيضاً)). نفس التاريخ الإسلامي هذا مليء بالحروب والاغتيالات السياسية وتصفية المعارضين والتفنن بالتعذيب (أنظر إلى كتابي هادي العلوي "الاغتيال السياسي في الإسلام" و"من تاريخ التعذيب في الإسلام"، وكتاب "الحقيقة الغائبة" لفرج فودة) فضلاً عن تمزق الامبراطورية الإسلامية إلى دويلات وممالك وجماعات، وإذا ما ذكر أدونيس العصرين الأموي والعباسي بشكل ايجابي، فإن العصرين، للتذكير، حفلا بانشغال الأمراء بقتال المتمردين وقطع رؤوسهم وجلبها إلى ديوان أمير أو حاكم أو خليفة المسلمين للتلذذ والانتقام والتأكد من موتهم. فعن أي تاريخ تليد يحدثنا أدونيس ويريد من "المسلمين أن يحتذوا به"!!

*****

إنَّ الفكر القومي والايديولوجية القومية ليسا من نتاج "أمة العرب" ولا من إبداعات الحركة القومية العربية، بل نتاج الغرب، والابتكار أو لنقل الإبداع الوحيد لها هو اكتشاف "القضية الفلسطينية" وتبنيها وإلحاقها بالهوية القومية العربية. وكان على المفكرين والمثقفين القوميين تحضير روح جديدة لشحذ الهمم وتعبئة الجماهير حولها، فليس هناك تاريخ قومي "لأمة العرب" تفتخر به، لأن نفس الفكر القومي هو نتاج بزوغ فجر البرجوازية في الغرب في القرن الثامن عشر، ولم يكن هناك طريق آخر غير تأسيس ذهنية أقرب إلى مختبر، يستقي منه أمجاد تخيلية سمي بالتاريخ الإسلامي.

إنَّ عملية الإدغام بين الإسلام والقومية العربية كحركة مستقلة وواضحة المعالم ومناهضة للاستعمار والغرب، تعود إلى العهد الناصري، فالدين لم يكن جزءاً من المنهج الدراسي في العصر الملكي أو عصر الملك فاروق، إنما النظام الناصري من فرضه على المناهج الدراسية، وبموازاته تم تشييد عشرة آلاف مسجد وجامع منذ انقلاب العسكر في مصر 1952 حتى عام 1970، كما تحول جامع الأزهر إلى مدرسة عالمية بفضل تمويل النظام الناصري وتقديم المنح إلى الطلبة الأجانب للدراسة فيه ( أنظر "العلمانية بين الطبقات وتياراتها السياسية" في الحوار المتمدن)، وفضلاً عن ذلك، فإن عبد الناصر كان وراء فكرة تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي وتنظيم مسابقات حفظ القرآن. وإذا كانت تلك "إنجازات" النظام الناصري، فإن الجناح البعثي وضع بدوره إضافات نظرية لعملية الإدغام بين القومية العربية والإسلام، وكان من أبرز منظريه ميشيل عفلق، الذي سطر أجزاءً عديدة من كتاباته التي توجت في مؤلفاته تحت اسم (في سبيل البعث) حول الهوية القومية العربية والإسلامية بأنها واحدة ((فالإسلام إذن كان حركة عربية، وكان معناه، تجدد العروبة وتكاملها))، ولخصها في جملة واحدة؛ إذا كان محمد كل العرب، فليكن اليوم كل العرب محمداً. أي أن الإدغام بين القومية العربية والإسلام وتحويلهما إلى هوية جامعة وواحدة، بدأها التيار القومي العربي.

*****

إن ما لا يريد أن يراه أدونيس أن المشروع القومي العربي سجل فشله بامتياز بجميع أجنحته الناصرية والبعثية وغيرها في "تحرير فلسطين" وتوحيد "الأمة العربية" واحتلال مكان مرموق في النظام الرأسمالي العالمي على الصعيد السياسي والاقتصادي، وعلى أنقاضه، جاء الإسلام السياسي الذي رفع راية نفس المشروع القومي ولكن بلباس أيديولوجي آخر. أي بمعنى آخر أن القومية العربية والإسلام هما وجهان لعملة واحدة، وكلا الأيديولوجيتين هما أيديولوجيات لأجنحة سياسية داخل العائلة البرجوازية العربية، وأنها، أي تلك العائلة، رفضت قسمة الإمبريالية العالمية والفتات التي كانت تلقيها على مائدتها، وأرادت حصة أكبر ومكانة أعظم في التقسيم الرأسمالي العالمي. وقد جرب الإسلام السياسي حظوظه والمضي بمشروعه بعد أن أصبح ذلك المشروع ثقلاً على كاهل التيار القومي العربي وغير قادر على حمله.

"الربيع العربي" او "الربيع الغربي"

قبل كل شيء نريد توضيح بأن مقولة أو مصطلح "الربيع العربي" مقولة غربية تبنتها الأنظمة القومية العربية، وذلك تجنباً لاستخدام مقولة "الثورة"، فما حدث في مصر وتونس، كانت ثورة ضد الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي القائم، ضد النظام الذي أرسى أسس ذلك الظلم، وهذا ما بث الرعب في قلوب الدوائر الرأسمالية والامبريالية العالمية. يستحق أن تطلق تسمية "الثورة" على ما جرى في تونس ومصر، ثورة اندلعت نتيجة عقود من القهر والاستبداد والإفقار والفساد وانعدام الحريات، ثورة قامت بها الطبقات والاقسام الاجتماعية المحرومة سواء اقتصادياً أو سياسياً، ولعبت الطبقة العاملة دوراً محورياً فيها عبر اتحاد الشغل بالإطاحة بنظام زين العابدين في تونس، وفي مصر بدأها عمال المواصلات والنقل في إضرابهم العظيم لتنضم اليهم الأقسام العمالية الأخرى في اليوم الحادي عشر من الثورة، ليضغط على الرئيس الأسبق حسني مبارك ويشد رحاله، وقد هب نسيم الثورتين على المنطقة. لقد دبت الثورتين الرعب في كل النظام الرأسمالي العالمي، واتفقت جميع أطراف ذلك النظام، أي القوى الامبريالية العالمية ضمناً وبشكل عملي، على الإطاحة برأس الثورتين واجهاضهما وتفريغهما من محتواهما، وتعويم مقايضة الأمان مقابل الإذعان والإفقار، وهكذا حاولت كل الأطراف الدخول في معترك الثورتين لتغيير مسارهما وتنصيب الأطراف المؤيدة لها والعمل على إعادة تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الامبريالية. وطرح الإسلام السياسي نفسه كبديل لتلك القوى الامبريالية، وكانت أمريكا وفي عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، مبادرة ومقدامة في سعيها لتشكيل معادلة سياسية جديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر دعم جماعات الإخوان المسلمين للوصول الى السلطة في مصر وتونس، وبالفعل قدمت 300 مليون دولار كدعم لانتخاب الرئيس السابق محمد مرسي في مصر إلى جانب دعم وصول راشد الغنوشي وحزبه "العدالة والتنمية" إلى السلطة في تونس، وتحت عنوان دعم الإسلام المعتدل في المنطقة. وعلى هذه الأرضية نمت جميع المليشيات والجماعات والعصابات الاسلامية في سوريا، ونفس السيناريو حدث في ليبيا، وجميع الأطراف سواء كانت غربية، أو عربية موالية للغرب أو التي كانت تبحث عن قطب دولي تستند عليه، اتفقت على إعادة سلطة القمع والاستبداد سواء كان ذلك قومياً او إسلامياً، المهم لا مجال ولا فرصة من تنازل الامبريالية العالمية عن قسم كبير من أرباحها للعمال والكادحين في الدول التابعة لها في التقسيم العالمي الرأسمالي، وفي حال وجود الحريات الإنسانية، يعني انتزاع الجماهير العمالية والكادحة المزيد من مطالبها المشروعة في تحسين وضعها المعيشي والإنساني والتمتع بالصحة والخدمات المجانية، ويعني في المقابل تخلي الدول الامبريالية وتلك التابعة لها عن المزيد والمزيد من الأرباح التي تجنيها من عرق العمال والكادحين عبر الاستبداد والقمع الذي اشتهرت به الأنظمة القومية العربية. هذا ما لا يريد أدونيس وغيره من المثقفين القوميين أن يروه، ولذلك يسميه بالربيع الغربي، والذي لم يكن أيضاً ربيعاً عربياً.

وهكذا تحولت مقولة الثورة إلى "ربيع عربي"، وفي نظر المدافعين عن النظام العربي أو الذي يحملون النزعة ضد الإسلام السياسي، يصورون كل ما حدث بأنه من صنيعة الغرب "ربيع غربي"، بينما الحقيقة هي من أشعل فتيل التغيير أو الثورة هم العمال والكادحين والمنتفضين ضد الاستبداد والقمع، هؤلاء لا ينظر إليهم من وجهة نظر القوميين سوى أدوات أو أناس خدعوا بالدعاية الغربية. وعلى الجانب الآخر، كي لا تفكر جماهير المنطقة سواء التي اندلعت فيها ثورة او التي هبت نسيمها عليها، أعطت القوى الرأسمالية المحلية والامبريالية العالمية درساً لها عبر اطلاق العنان لكل الوحوش والعصابات والجماعات والمليشيات الإسلامية، لتعبث بأمن وسلامة الجماهير بعد فشل "الإسلام السياسي المعتدل" في مصر وتونس في احتواء الثورة وتفريغها من محتواها أو بالأحرى إتمام الثورة المضادة. وهكذا أطيح بالإخوان المسلمين في مصر وبنفس السيناريو مع الأخذ بنظر الاعتبار توازن القوى في تونس أطيح بحزب العدالة والتنمية، وكانت آخر الأوراق ترتيب سيناريو داعش ودولته الإجرامية في سوريا والعراق، لتسديد ضربة نهائية إلى أماني وطموح الجماهير من أجل تحقيق الحرية والمساواة الرفاه عبر انتصار الثورة.

هذه اللوحة غائبة بأمتياز مع سبق الإصرار والترصد عن ذهن أدونيس وأقرانه من الذين يختزلون الأحداث التي جرت في مصر وتونس والمنطقة بما آلت اليه الامور، وهي لم تكن من صنع الغرب كي يسميها ادونيس بالربيع الغربي، ولكن تغيير مساراتها السياسية وقلب الأحداث لإجهاض الثورة، أو القيام بثورة مضادة في مصر، مثل الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي وفي تونس الانقلاب الذي قاده قيس سعيد، وفي السودان الانقلاب الذي قاده البرهان وانفراط عقد الحوثيين في اليمن، هذه الانقلابات على الثورة هي جزء من السياسة الامبريالية العالمية بجميع أقطابها الغربية والروسية، وشاركت فيها الأنظمة العربية لاعادة ترتيب الأوراق وخلق الاستقرار السياسي وتشكيل معادلات سياسية جديدة.

*****

ان المشروع الإسلامي فشل ليس كما يصوره أدونيس لأنه لم يستطع من تجديد نفسه، فهو نفس الحال بالنسبة للمشروع القومي الذي هو الآخر أيضا فشل. إن فشل هذه المشاريع هي جزء من فشل النظام الرأسمالي، النظام الذي يولد في كل لحظة من لحظات حياته الحروب والحصار الاقتصادي والقمع والاستبداد والقتل والحرمان والظلم بكل اشكاله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد فشل أيضا البديل الليبرالي والديمقراطي الذي تنمو على أنقاضه الفاشية القومية والعنصرية في اوربا، وفشلت حتى الدكتاتورية التي كانت شكلا للسلطة في إدارة سلطة رأس المال والتي عرف بها في دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وبلدان الشرق الأوسط في القرن المنصرم.

*****

وأخيرا نقول، ان القضية الفلسطينية ليست بحاجة الى تصنيف أدونيس للبشر في منطقتنا الى مسلمين كي يواجهوا سياسات الغرب ويعطوا صورة مهيبة عن الاسلام، فها هي البشرية المتمدنة تدخل في مواجهة سافرة في الغرب ضد سياسة أنظمتها التي تبرر جرائم إسرائيل في غزة، بمعنى آخر ان القضية الفلسطينية غير مرتبطة لا بالعرب ولا بالمسلمين كي يصلح ادونيس حالهم وبالتالي كي ينهي الظلم القومي السافر على الفلسطينيين ويتم تأسيس دولتهم المستقلة. إن القضية الفلسطينية هي قضية الإنسانية وجزء من هويتها، وأثبتت حرب إسرائيل على غزة، ان القضية الفلسطينية تجاوزت القومية والدين والطائفة والعرق والجنس، وكسرت هذا الاحتكار المقيت من قبل المتاجرين بها من قبل التيارات الإسلامية والقومية، وما يجري من احتجاجات وتظاهرات عظيمة في العالم ضد إبادة إسرائيل للفلسطينيين وضد الانظمة الغربية التي تناصر إسرائيل هو التباشير الأولى لفتح افاق جديدة امام نضال البشرية كي تعيش انسانيتها. وهنا لا يبقى امام ادونيس غير إطلاق اهاته وعبراته وزفراته على ما آل إليه المشروع القومي المطرز بالزي الإسلامي وبغض النظر عن منشأه الاموي او العباسي والأندلسي.