افتقدت انتخابات مجالس المحافظات في العراق إلى الديناميكيات الوطنية، وانغلقت على التمثيل الطائفي والمناطقي والعرقي. فقوائم التحالفات الشيعية نزلت بالمحافظات الشيعية (وسط وجنوب العراق)، وانتشرت القوائم السنّية في المدن السنّية، وكان تركيزها على الأنبار ونينوى وصلاح الدين، بينما اتخذت القوائم التركمانية والكردية من مدينة كركوك ملعبها الأساس. وحدها قائمة تحالف قيم المدنية توزعت بالمدن الشيعية والسنية، وتضم أحزاباً ليبرالية ويسارية، إضافة إلى الحزب الشيوعي العراقي وبعض الحركات التشرينية والنواب المستقلين.

قانون "سانت ليغو" الذي أقره مجلس النواب لانتخابات مجالس المحافظات لعام 2023 دعا غالبية الأحزاب إلى الدخول في تحالفات وائتلافات بسبب صعوبة الوصول للعتبة الانتخابية من قبل الأحزاب الصغيرة والناشئة، ما يدلل على أنَّ مجلس النواب، الذي صوت بأغلبيته على القانون، لم يفتح الآفاق للتنمية الديمقراطية والتعدد النوعي في أحزاب تخرج عن طوق التحالفات الطائفية والعرقية والمناطقية، وأعلن انحيازه للأحزاب الكبيرة التي تهيمن على المشهد السياسي ومقاعد البرلمان ومراكز السلطة والنفوذ والمال.

اللافت في هذه الانتخابات، التي جاءت بعد عشر سنوات من تعطيل العملية الديمقراطية جراء أحداث داعش وانتفاضة تشرين 2019 التي أسقطت حكومات المجالس المحلية بسبب فسادها وسوء إدارتها وهدرها للمال العام، أنَّها تأتي وسط مقاطعة واسعة النطاق بدأها التيار الصدري صاحب الجمهور الأوسع بين التيارات الشيعية، والتحق بالمقاطعة تحالف الوطنية للدكتور أياد علاوي وعدد من الأحزاب الناشئة وحركات تشرين والمستقلين، الأمر الذي يجعل نسبة المشاركة منخفضة أكثر من الانتخابات السابقة، وهنا يتوقع المتابعون ألا تتجاوز هذه النسبة 20 بالمئة.

برغم الإمكانيات الكبيرة التي قدمتها الحكومة لإنجاح الانتخابات والإجراءات المشددة في حمايتها من التهديد الأمني، يشوب هذه الانتخابات التزوير وشراء أصوات الناخبين وتزوير بطاقات الناخبين وإرغام العديد من منتسبي القوى الأمنية على الانتخاب وتحديد أسماء دون أخرى للتصويت لصالحهم.

جرت العادة أن تستقطب الانتخابات العراقية أعداداً كبيرة جداً من المرشحين، وهو ما حصل مع مجالس المحافظات الحالية، حيث تقدم للترشح 6022 مرشحاً يتنافسون على 275 مقعداً تتوزع على خمسة عشر محافظة؛ ظواهر لا نظير لها في ديمقراطيات العالم!

الحقيقة المتجلية بهذه الدورة من الانتخابات تتمثل بتحالف رجال المال والسياسة، وسط صراع مدعوم بإسناد عشائري وإنفاق مالي هائل بهدف السيطرة على مراكز السلطة في المحافظات، والاستئثار بثرواتها وتخصيصاتها المالية المليارية، تتكامل مع سلطاتها في مركز السلطة والدولة، وتحكم سيطرتها وفق منهج المحاصصة الطائفية والقومية الذي سارت عليه العملية السياسية في أسوأ وأفشل تجربة سياسية تهيمن على البلاد منذ عشرين سنة.

النظام السياسي الديمقراطي في العراق بعد 2003، ما زال يحمل صفة التركيب الهجيني، ولم يستكمل أهم مرتكزاته في التنمية السياسية الديمقراطية في تشريعات داعمة للثقافة الديمقراطية، وسيطرة لغة السلاح المنفلت وتحكّم الميليشيات والفصائل المسلحة في الشارع العراقي، ناهيك عن غياب الحرية الكاملة لوسائل الإعلام والبث، وسيطرة الأحزاب على مؤسسات الدولة والإثراء على حساب المال العام وإقصاء ما عداها، وغياب التبادل السلمي للسلطة، والإصرار على بقاء معادلة المكونات العرقطائفية وتغييب ثقافة المواطنة والسلام الاجتماعي.