أهم خصائص أنظمة الحكم الديمقراطي تتجلى في الانتخابات التي تشكل حلاً بديلاً للصراع والتصادم المسلح. إلا أن واقع الحال في العراق يحكي قصة مختلفة، إذ تتحول الانتخابات إلى أزمة وطنية ومعضلة عميقة بدلاً من أن تشكل حلاً.

ما يزيد وضع العراق خطورة انتشار السلاح بين أطراف الصراع في الساحة الشيعية، الذين لن يترددوا في الدخول في نزاعات في ما بينهم، إن لم تأت نتائج الانتخابات كما يشتهون. وينسف انتشار السلاح بين الأحزاب العراقية أهم قواعد الأنظمة الديمقراطية، ويهدد بدفع البلاد نحو منحدر خطير، وأعني حرباً أهلية، تماماً كالتي وقعت في بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا، وكذلك ليبيا، التي لا تزال الأخبار السيئة تأتينا منها عبر الفضائيات والمواقع الإخبارية.

الانتقال الفوري من نظام دكتاتوري إلى الديمقراطية، من دون العبور بمرحلة انتقالية تتحقق فيها العدالة الاجتماعية والقانونية، يبدو وكأنه قفزة في الهواء. ويمكن تفادي الارتدادات السلبية لهذا الانتقال الفوري من خلال فسح المجال أمام مكونات المجتمع والأحزاب الساعية للسلطة للمرور بمرحلة انتقالية نحو دستور دائم وحريات تكفل حماية الهويات الثقافية والعرقية والطائفية المتعددة. ويسمح الانتقال التدريجي بتصفية آثار الماضي الثقيل وتحقيق التوازن الاجتماعي، ويوفر للبلد الحماية، ويقي من انطلاق المكبوتات ووقوع صدامات، وخصوصاً في حال وجود فجوة في التحضير والتخطيط لهذا التحول.

ويتصاعد الخوف في الأوساط الاجتماعية العراقية كلما اقتربنا من موعد انتخابات مجالس المحافظات يوم 18 كانون الأول /ديسمبر 2023، حيث سيتم انتخاب مجالس تدير شؤون المحافظات العراقية بما فيها العاصمة بغداد، باستثناء محافظات كردستان حيث تأجلت الانتخابات ليوم 25 شباط / فبراير 2024.

تناط بهذه المجالس المنتخبة صلاحيات التخطيط والرقابة وانتخاب محافظ ومدراء الوحدات الادارية والخدمية. لقد تم إسقاط سلطة هذه المجالس إبان انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر 2019، بعد وسمها بالفساد والحلقة الزائدة التي تتيح للأحزاب الهيمنة على العقود والمال والنفوذ في محافظات ومدن العراق. لكن تمت إستعادتها من قبل مجلس النواب العراقي بقرار تشريعي، بعد انسحاب التيار الصدري من مجلس النواب على أثر الخلافات الحادة التي بلغت مرحلة الإقتتال في المنطقة الخضراء يوم 30 آب / أغسطس 2022. وفي ذلك اليوم، بعد فوز التيار الصدري بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية، اعترضت الاحزاب الشيعية وفصائلها المسلحة على النتائج، ولم تسمح له بتشكيل الحكومة، وانتهت بانسحاب التيار الصدري من الحكومة والعملية السياسية برمتها. لكن انسحابه أبقى النار تحت الرماد.

يوصف التحليل السياسي الانتخابات التي تجري في الأنظمة الديمقراطية بأنها تنافس حر بين الاحزاب وبرامجها وفق قانون يحقق تكافؤ الفرص الإعلانية والتمويل المالي، ويحفظ مسافة ثابتة من السلطة لجميع المتنافسين، لكي لا تستغل لتغليب طرف على آخر.

جميع تلك الضوابط مقيدة بقوانين صارمة تعطي للجمهور الحرية الكاملة بالاختيار من دون التدخل بإرادته.

وتفتقر التجارب التي خاضتها الأنظمة الديمقراطية الهشة والهجينة وبينها العراق للتقاليد والضوابط التي تكرس الانتخابات كمشروع اجتماعي تقدمي، ومساحة تنافس هدفها ما يقدم من مكاسب للشعب عموماً. وبالرغم من وجود قوانين لصيانة تلك التقاليد، لكن لا أحد يعمل بها، بل يتركز جلّ اهتمام الأحزاب على كسب الأصوات بأي ثمن وتحت أي سلوك من أجل الوصول إلى السلطة. ولا تتردد تلك الاحزاب بتوظيف موارد الدولة المالية والبشرية في تحقيق التفوق على منافسيها، ما يجعل التزوير وشراء الأصوات مشاعاً لهذا النمط الانتخابي الفاشل، وهنا تكريس نوعي لفساد سياسي يتنافى مع مبدأ العدالة الاجتماعية-السياسية الذي ترمي له الديمقراطية كمنهج حكم وقوانين تؤمن الحقوق للجميع ولا تقصرها على الأغلبية فقط.

اليوم، يهبط المشروع الانتخابي بالعراق من فضاء التنافس السياسي الهادف الى تطوير حرية الاختيار وتنمية الديمقراطية كمشروع حياة متعادلة بالحقوق، الى تصادم اجتماعي بين الاحزاب والحركات السياسية وتحريض على مقاطعة الانتخابات وتطويق مساحاتها وتقييد فضائها الإعلامي. ولا يُستبعد أن تؤدي مثل هكذا مشاحنات ومخالفات سياسية وقانونية الى التصادم المسلح قبيل اجراء الانتخابات، جراء فعل المقاطعين الذين سبق وأن حرموا من حقهم بعد فوزهم بالانتخابات البرلمانية.

ومن غير المستبعد أن تتدخل جهات أخرى في تأجيج أجواء الفوضى والتشاحن. بل لعل الأمور تزداد خطورة بعيد إعلان نتائج الانتخابات واتهامها بالتزوير المنظم لصالح طرف دون آخر، وهذا الأمر لا يفرّغ مشروع الديمقراطية من محتواه فحسب، بل يكرس حالة من الفوضى والخراب الناتج عن تصادم الأقوياء بالنفوذ والمال والسلاح.