في 18 كانون الأول/ديسمبر الجاري هب أهالي كركوك بجميع قومياتها وأديانها ومكوناتها إلى موعدهم الذي طال انتظاره مع الصندوق في انتخابات مجالس المحافظات، الأولى منذ أكثر من 18 عاماً. وبصرف النظر عن النتيجة، فإنَّ الانتخابات نفسها مثلت حدثاً مهماً يستوجب أن نتوقف عنده لإبداء بعض الملاحظات السريعة.

الملاحظة الأولى أن الانتخابات جرت بالفعل، وكان يمكن تأجيلها بحجة المشاكل والصراعات السياسية المتفاقمة بين الكتل والأحزاب العراقية، خاصة بعد إعلان التيار الصدري مقاطعتها، إضافة إلى التدخلات الإقليمية لعرقلتها بشتى الطرق. لكن عقد الانتخابات رغم العراقيل الداخلية والإقليمية أكد الحرص على الممارسة الديمقراطية رغم ضعفها وهشاشتها.

الملاحظة الثانية المهمة باعتقادي، وحسب متابعتي لمجرى الانتخابات وخاصة في كركوك بسبب طبيعة المحافظة التي تشهد صراعاً سياسياً وحزبياً داخلياً واقليمياً حول مصيرها، هي الإقبال الكبير على محطات الاقتراع، والذى يؤكد حرص أهالي كركوك والمناطق الأخرى، ومنها نينوى وديالى وخانقين وصلاح الدين، على المشاركة فى صياغة مستقبلهم والتمسك بالتزاماتهم الوطنية، واقتناعهم أنَّ مشاركتهم وصوتهم سيسهم فى تحديد ذلك المستقبل وكسر سلاسل المحاصصة والفساد والتهميش المتعمد.

لا شك في أنَّ العملية العسكرية في كركوك عام 2017، والتي نفذت على خلفية استفتاء الانفصال الذي أقامته حكومة الإقليم حينها، كان لها تأثير فى ذلك، وهكذا أصبحت المشاركة فى الانتخابات في كركوك بمثابة التصويت على مستقبل أهالي المحافظة وحماية أمنهم وحياتهم ووظيفتهم بطريقة سلمية وحضارية ومدنية في ظل مرحلة التحرر والبناء الوطني الحقيقي. وإن نجاح التصويت في كركوك بانسيابية عالية من دون أي مشاكل أو معرقلات، وبنسبة مشاركة بلغت 40 بالمئة حسب مكتب مفوضية الانتخابات في كركوك، دليل على صحة ما تقوله.

الملاحظة الثالثة أن أهالي هذه المناطق بجميع قومياتهم ومكوناتهم الأصلية قالوا كلمتهم ولم يتأثروا بالدعايات والصراعات الحزبية المقيتة، وأثبتوا لقيادات أحزابهم قبل الآخرين أن زمن المزايدة قد ولى، وأن آراء مواطني هذه المناطق المغدورة لها قيمتها وأهميتها لتحديد مصيرهم.

الملاحظة الرابعة هي أن أهالي كركوك لقنوا الأحزاب الكوردية درساً قاسياً لا يُنسى، ألا وهو أن الوطن قبل الحزب والصراع على المصالح الحزبية، وخاصة بعد الانقسام بين الأحزاب الكوردية من جهة، وتطبيق السياسة الأحادية التي اتبعها بعض الأحزاب الكوردية ومشاركتهم في انتخابات مجالس المحافظات بقوائم عديدة ومختلفة من جهة ثانية، رغم علمهم بنظام "سان ليغو" المعدل بالاعتماد على القاسم الانتخابي 1.7، الذي يزيد من حظوظ الكيانات الكبيرة على حساب الكيانات الصغيرة، والتي تكون حظوظها في حصد المقاعد ضعيفة.

من الجدير بالذكر أن هذه الملاحظات وملاحظات كثيرة أخرى تصب كلها فى صالح الوعي العام لجماهير الناخبين في كركوك ومناطق أخرى، الذين يصطفون دائماً في لحظات التحديات الكبرى فى وقفة وطنية قوية تؤكد أصالة أهالي كركوك بجميع قومياتهم ومكوناتهم الأصلية ونضج وعيهم وصحوة ضميرهم وقناعتهم بأن آليات الانتخابات هي أحسن وسيلة لتداول السلطة بطريقة سلمية. إنَّها رسالة واضحة، لا تتطلب التوضيح، وجهها أهالي كركوك لجميع الأحزاب وفي مقدمتهم حزبي الاتحاد والديمقراطي، الذين لم يتعظوا من أخطاء الماضي.

الملاحظة الأخيرة تتعلق بانتصار قوة المنطق على منطق القوة والصراعات الحزبية المقيتة، وهذه الخطوة بحد ذاتها هي انتصار لإرادة وقوة الشعب من اجل حقوقه المشروعة.