إن تَفَجُّر الصراع في الشرق الأوسط جاء بمثابة طوق نجاة لفلاديمير بوتين، وإلهاء عن حَربه العدوانية على أوكرانيا. فالرئيس الروسي حتى الآن أحد أبرز المُستفيدين من هذا الصِراع، وليس بعيداً كما أشرنا سابقاً، أن يكون هو وحلفاءه في قم خلف ما قامت به حماس. فحالياً، يتمَثّل الهدف الرئيسي لموسكو في تشتيت انتباه الغرب، الذي يُكرِّس حالياً اهتمامه لإسرائيل بَدَل أوكرانيا، وكلما زاد توَرّط الغرب في حرب غزة، تحَقّق هذا الهَدَف.
يلعب الإعلام الروسي، الذي وَرث الأساليب الخبيثة لسَلَفه في الاتحاد السوفيتي، دوراً كبيراً في تحقيق ذلك، سَواء عِبر شيطنة الغرب وتحميله مسؤولية تفجّر هذا الصِراع، أو تبنيه أكاذيب حماس حول الحرب، أو قول بوتين بأحد خطاباته "إن مصير روسيا والعالم، ومستقبل الشعب الفلسطيني، سيَتقرر على جبهة أوكرانيا"، أو تصريح إيغور مولوتوف الذي يعمل في RT: "إن انتصار فلسطين هو انتصار لموسكو ومينسك". فرَبط الصِراعين يضَع روسيا الى جانب حماس، وإسرائيل والغرب في الجانب الآخر. وللأسف انطَلى هذا الخطاب على كثير من الجهلة. لذا لم يكن مفاجئاً رؤيتنا لصُور بوتين أمام الكاميرات مع أعلام حماس في تظاهرات الضفة الغربية، بدل صوَر ياسر عرفات مثلاً. كما لم يكن غريباً كانعكاس لخطابه الشعبوي المَسموم ما حدث قبل أسابيع في مطار مَحج قلعة في داغستان، التي تضم أقلية يهودية، نتيجة شائعات بمواقع التواصل عَن ضيوف غير مُرَحّب بهم، حيث استَولت حشود من الرعاع على المطار، بحثاً عن لاجئين إسرائيليين على متن رحلة قادمة من تل أبيب، وهم يُرددون شعارات عنصرية مثل "الموت لليهود".
في الوقت نفسه، يَعرض بوتين نفسه دعائياً كوسيط، لأنه يريد أيضاً استخدام الحرب سياسياً لتوسيع نفوذ بلاده في الشرق الأوسط، وتعزيز مكانتها كلاعِب مؤثر في الساحة الدولية. لكنه واقعياً لا يشارك في إيجاد حل سلمي سريع للصراع. لأن استمراره يخدم أجنداته في المنطقة، وإنهاءه يعرقلها. فأي سَلام بين الطرفين، يعني عدم وجود حجّة له للتدخل في شؤون المنطقة، وصعود أسهم الغرب فيها، لذا هو يسعى لإفشال جهود السلام الغربية عِبر التصعيد الإعلامي. بالتالي زيارته الأخيرة إلى السعودية والإمارات، التي رَوّج أنها للوساطة، ليست كذلك. فرغم الجهود التي تبذلها الدولتان لإيقاف الحرب، إلا أنَّ أبرز من يقوم بجهود الوساطة حالياً هما مصر وقطر، لما لهما من علاقات بطرفي الصراع. لذا كان على بوتين أن يتوجه إليهما لو سَعى فعلاً للوساطة! لكن رحلته تتمَحور أولاً حول المصالح الاقتصادية، ثم الحرب في غزة وأوكرانيا.
اللافت في الأمر، لكنه طبعاً مَفهوم الدَوافع، هو الاستقبال الفَخم الذي حَظي به بوتين في أبو ظبي والرياض، رغم مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضده، ورغم تحالفه الوثيق مع إيران، العدو اللدود للمملكة، والذي كان رسالة أرادت الدولتان إيصالها للغرب، والولايات المتحدة تحديداً. فالدولتان كأغلب دول الشرق الأوسط، لم تنخرطا في العقوبات الغربية ضد روسيا بعد غزوها أوكرانيا، ولا حتى إسرائيل الحليف الأقرب للولايات المتحدة، أو تركيا العضو في الناتو الذي يصطف بكامل ثقله خلف أوكرانيا. هناك طبعاً أسباب لذلك. فمنذ البداية، كان هناك تحفظ من قِبَل المملكة ودول عربية أخرى من الانحياز بشكل واضح ضد روسيا، لأنها شريك مُهم لأغلب هذه الدول نتيجة لعلاقات قديمة تربط أنظمتها السابقة والحالية بالمعسكر الاشتراكي. بالإضافة إلى اتهام الغرب بالازدواجية، لأنها تراه منحازاً لأوكرانيا أكثر من الفلسطينيين، الذين يعانون منذ عقود، دون إيجاد حل عادل لقضيتهم، أو إنهاء معاناة بعض شعوب المنطقة، كما في سوريا واليمن، أو بعبارة أخرى في البلدان القلقة، نُظُماً أو مُجتمعات، التي تسَبّبَت بزَعزعة استقرار الشرق الأوسط لفترة طويلة، مِمّا سَمَح لأنظمة ذات أجندات مشبوهة كملالي إيران بالحصول على موطئ قَدَم فيها، وتشكيل ميلشيات مرتزقة تتبَنّى قضاياها كحماس والجهاد وحزب الله والحوثي. النقطة الأهم هنا هي أنَّ المنطقة ظلت لسنوات تشعر أنَّ الأميركيين يُوَدّعونها، وما تَرَتّب على ذلك من عواقب سلبية على أمنها. لذا لم تعُد دولها تشعر بالأمان، وباتت تبحث عن حلول توافقية مع هذه الأنظمة، التي بات حضورها في المنطقة أكثر من الغرب، وأبرزها إيران وروسيا والصين.
بوتين استشعر هذا الأمر بحِسّه المخابراتي، ولكونه مُصاب بداء العظمة، ويبحث عن دور أكبر مما يتناسب مع إمكانياته وإمكانيات بلاده، وجد أن ما يُمكن أن يُحققه من نفوذ ومَجد شخصي عبر التحالف مع إيران ومحور الشَر، أكبر مما حَققه من التحالف مع الغرب، رغم أن الغرب لم يُقلل من قيمته وقيمة بلاده، فلفن بلاده وثقافتها القدح المُعَلّى في الغرب، وحتى هو رغم اختلاله، كان يُستقبَل في العواصم الغربية استقبال القياصرة، لأنَّ هذه الدول كانت تعلم أهمية هذا الشعور بالنسبة له، وتسعى لتجنّب شرّه. لكن كل هذا لم ينفع، لأنَّ بوتين لا يبحث فقط عمّن يتعامل معه باحترام، بل ويتعامل معه بدونية، أي يشعره أنه أدنى منه وبحاجة إليه، وليس نداً له. وهذا مثلاً ما أشعره به بشار الأسد، كما يَظهَر في العديد من أحاديثه مع بوتين، والتي يبدو فيها كتابع ذليل يتزلف لسَيّده، لذا لم يتوانى عن دَعمه بشكل مباشر وليس لوجستياً فقط، وحَل جيشه بدَل الجيش السوري في مواجهة معارضة الأسد، وكانت طائراته تدُك المدن السورية ببراميل متفجرة صُنِعّت في معامل روسية، هي نفسها التي تزود حماس بالسلاح اليوم. لكن هذا التغيير في بوصلة بوتين، لم يحدث بين يوم وليلة.
فبَعد وصوله للسلطة عام 2000، حَرَص بوتين على رأب صَدع علاقة بلاده مع إسرائيل، التي كانت أقرب للقطيعة خلال العقود الأخيرة من الحقبة السوفيتية، بل وسَعى لتطويرها لِما يشبه الشراكة في مجالات الاقتصاد والسياحة والثقافة، وفي المَجال العسكري، خصوصاً أيام حربه مع الشيشان، حين شبّه صِراع بلاده ضِد الإرهاب بصِراع إسرائيل ضِد حماس، وهو تشبيه حرص على تكراره في لقاءاته مع الإسرائيليين، الذين لطالما وصفوه بالصديق. وطوال فترة التسعينيات، أدانت روسيا أنشطة حماس ووصفتها بالإرهابية، وأعضاءها بالمتطرفين. لكن بعد انتخابات 2006 غيّرَت نبرَتها، حين أعلن بوتين أنَّ حماس انتُخِبَت ديمقراطياً! ومِن يومها دَأب المسؤولون الروس على اللقاء مع مُمثلي حماس. وأعلنت موسكو موقفها من حماس، التي يُصنفها الغرب كمنظمة إرهابية، على أنها منظمة سياسية مَشروعة. رغم أن إسرائيل حاولت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا الحفاظ على موقف مُحايد، ورغم محاولات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كسبها إلى صَف بلاده، حتى أنها اقترحت لعِب دور وساطة بين البلدين، لأنها رأت أن مصالحها مع روسيا أولى، والتي كانت تتركز في ضمان استمرار حركة طائراتها بالمجال الجوي السوري لمنع توريد الأسلحة إلى حزب الله، وعَدَم الإضرار بوَضع الجالية اليهودية في روسيا.
ثم جاءت أحداث السابع مِن أكتوبر لتُمَثل القشة التي قصَمَت ظهر هذه العلاقة، ففي حين أدان أغلب زعماء العالم هجوم حَماس الإرهابي، وقدّموا التعازي لحكومتها بعد المَجزرة التي نفذتها حماس في ذلك اليوم، امتنع بوتين عن القيام بذلك، وشدّدت حكومته لهجتها تجاه إسرائيل، بمُقابل تأييدها المُبَطّن لحماس، بل وشَبّه هو قطاع غزة المُحاصَر مِن قبل إسرائيل بمدينة ليننغراد، حينما كانت محاصرة من قبل النازيين! لذا علاقة حماس بروسيا لم تكن متينة كما هي اليوم، ولا عَجَب أنها شكرت بوتين علناً على ما وصفته بـ"جهوده الدؤوبة لإنهاء العدوان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني". وفي الحقيقة لدى حماس مئات الأسباب لشكر بوتين. فموسكو أُبلِغت مُسبَقاً بخطط حماس الهجومية، وقدّمَت لها المَشورة، وزودَتها بالأسلحة، فقد تم العثور على أسلحة روسية لدى حماس، منها صواريخ أرض جو ومُضادة للدبابات، تم نقلها إلى غزة عِبر إيران. كما أعلن أحد قادة حماس أن روسيا مَنَحَتهم ترخيصاً لإنتاج الكلاشينكوف. وهناك تقارير استخبارية تؤكد أن مليشيا فاغنر دَرّبَت مرتزقة حماس على طائرات بدون طيار خارقة للدروع. كما سَلّمت روسيا الأسلحة الغربية التي استولت عليها في أوكرانيا إلى حماس. على صَعيد التمويل، تعتمد حماس على سوق العُملات الروسي، حيث تقوم بتحويل ملايين الدولارات رقمياً للتحايل على العقوبات الدولية. وبحسب صحيفة وول ستريت، منذ آب/أغسطس 2021 تم تحويل41 مليون دولار إلى حماس و93 مليون دولار إلى الجهاد الإسلامي، عبر بورصة غارانتكس الروسية للعُملات المُشَفّرة. لذا زعيم الكرملين يَدعَم بحماسة حَماس في صِراعها مع إسرائيل. من جانبها تسعى حماس للحفاظ على هذه العلاقة الوثيقة، لما توفره لها من دعم مادي وزخم مَعنوي، يساعدها على البقاء ويُظهر بأنها مُرَحّب بها في واحدة من أهَم عَواصم العالم، ومَدعومة من عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة!
بالنتيجة استمرار حَرب غزة، وبالتالي موت الفلسطينيين، يمثل استثماراً لبوتين. أولاً لأنه يضمن استمرار تصَدّر الحرب لعناوين الأخبار، والابتعاد عن إدانة غزوه لأوكرانيا. ثانياً لأنه يخدم سردياته عن مسؤولية وفشل سياسة القطب الواحد، والحاجة للتعددية القطبية، مِن خلال ركوب موجة الدعم المؤيد لفلسطين في مُختلف أنحاء أوروبا، للتأكيد على أنَّ العدو المشترك لفلسطين وروسيا هو الولايات المتحدة، من خلال تأطير الأزمة بين إسرائيل وغزة باعتبارها حَرباً بالوكالة مع الولايات المتحدة، عِبر نشر معلومات مُضللة في الإنترنت لتشكيل الخِطاب العام للوعي القطيعي لجَمهوره بشأن الأزمة، يَرتكز على تبرير غزو أوكرانيا، وتقويض الدعم الغربي لها، وتشويه صورة أمريكا، وتقويض سياستها الخارجية! ثالثاً لأنه ُيَوفر له فرصة لتوسيع نفوذه داخل قوى اليمين واليسار في الغرب لزيادة الإنقسام والاستقطاب المجتمعي، فالتدخل الروسي في السياسة الأوروبية، خاصة داخل أحزاب اليمين واليسار، لم يَعُد سِرّاً يَخفى على أحد. رابعاً وأخيراً، وربما ليس آخراً، لأن في جُعبة ضابط المُخابرات السابق مما لا نعلمه الكثير، فإن استمرار الحَرب وتصاعد روح العَداء للغرب في الكثير مِن المُجتمعات، التي باتت موبوءة بفيروس العَداء لأمريكا، وبوَهم انتظار المُنقِذ، يُرَسِّخ الصورة التي يحاول ترويجها لنفسه، على أنه المُنقِذ المُنتظَر مِن الإمبريالية الأميركية، وتقديم نفسه ونِظامه الوَحشي كبَديل لها.
التعليقات