إنَّ العمل الإرهابي الذي قامت به حماس في السابع من أكتوبر، جعل بقعة معاداة السامية، خصوصاً فيما يتعلق بإسرائيل، والتي كانت راكدة في قاع نفوس بعض شرائح المجتمع الألماني، من المهاجرين المسلمين أو الألمان، تطفو إلى السطح وتظهر بشكل صادم في الشارع أو على مواقع التواصل. فقد صُدِمَت النُخَب الألمانية، السياسية منها والثقافية، التي كانت تعيش في عالم مثالي لا يمت لواقع محيطها وبلدها بصلة، بكيفية تبرير هجمات حماس الإرهابية في بلادها وباقي الدول الغربية، واستغلال ديمقراطياتها لتسويق خطاب كراهية مخيف، على أنه حرية رأي ودفاع عن قضية!
لكن يبدو أن تصَدّعات الهوِيّة التي كان يتم تجاهلها وتغطيتها بكذبة الإندماج، بدأت تظهر في بنيان المجتمع الألماني. فمنذ ذلك التأريخ يعيش يهود ألمانيا وضعاً مُقلقاً مِن معاداة السامية، لم يتخيلوا يوماً بأنهم سيعيشونه، على خلفية ما يحدث من صراع في غزة، بين أُناس يحملون لهم كُرهاً أبدياً يَرضَعونه صِغاراً، وبين نظام مَحسوب عليهم، ويَحمل هويتهم الدينية، وتعُود تبِعات أفعاله عليهم. كذا الحال مع الكثير مِن المسلمين، الذين باتوا يشعرون بأنهم موضع شك، وفي خانة المعادين للسامية، وهُم ساميّون(!)، لمُجرد إنتقادهم عُنف الحكومة الإسرائيلية. بل أن هنالك شباب مسلمين ويهود، ولدوا ونشأوا في ألمانيا، وليس غزة أو تل أبيب، جَمعتهم صداقة عُمُر تصَدّعت بسبب هذه الحرب وخِطاب الكراهية الذي يرافقها، والذي ينساق إليه الشباب، الأسرع تأثراً بالشعارات العاطفية التي تُدغدغ المشاعر وتثير الغرائز، فباتوا ينادون بعضهم بنبرة كراهية "يا يهودي"! و"يا "إسلامي"!
هناك أسباب كثيرة تقف خلف التركيز الإنتقائي على هذا الصراع دون غيره في الغرب، ووَراء أكمّة التحشيد الدِماغوجي الشَعبوي الذي نشهده اليوم بسَببه، ما ورائها من دَوافع، هي على الأغلب ليسَت إنسانية بحتة. فهناك العديد من الصراعات الدموية التي شهدها العالم، لكنها لا تحشِد الناس بنفس القدر، ولا تستفزهم بنفس الطريقة، ولا تخرج تظاهرات لتستنكرها ولا بنسبة 1% من التظاهرات التي نراها منذ أسابيع في العديد مِن مدن ألمانيا، بحجة إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، دون أن تُشير ولو بشكل عابِر للعدوان الحَمساوي على إسرائيل! مَدفوعة لدى المسلمين بكراهية دينية تستند الى تَفاسير متطرفة للنصوص الدينية، ومدفوعة لدى الألمان بكراهية عِرقية لها خلفيتها في التأريخ الألماني لا تزال تجتذب نسبة من الألمان، قِلّة منهم مِن اليسار المَدفوع بعقدة العَداء لأمريكا وحلفائها، وجُلّهُم مِن اليمين الذي تطابقت رؤاه العنصرية اليوم مع الإسلاميين كما حدث قبل ثمانية عقود، حينما تحالف هتلر مع المفتي أمين الحسيني ليُرَوّج للنازية بين المسلمين (!) في مقابل وعده له بإخراج اليهود مِن فلسطين، وجعله حاكِماً عليها إذا إنتصر في الحرب، وهو ما لم يحدث، ومات الحسيني كَمَداً. كما أنهم، أي اليمين والإسلاميين ومَعهم اليسار، يجتمعون على الإيمان المطلق بنظرية المؤامرة، وتصديق كل ما يصدر عن منظّريها المُختلّين مِن تخاريف، ومنها أن النخبة العالمية التي تسعى للتخلص من البشر، عبر افتعال الأمراض والكوارث الطبيعية، والإبقاء على ما يُسمّى بالمليار الذهبي، هي يهودية!
إنَّ الدعاية النازية في العالم العربي خلال الحرب العالمية الثانية ساهمت بشكل كبير في معاداة السامية التي نعيشها اليوم. فمعاداة الساميّة تمثل مشكلة في العديد من الدول الإسلامية، ولعِب الصِراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين دوراً مهماً في ترسيخها وتأجيجها، إذ يلجأ البعض في الشرق الأوسط الى شعارات معادية للساميّة ليثير الكراهية لليهود، بحجة مناهضة الصهيونية. في أوروبا، حيث تتمتع معاداة السامية بجذور أعمَق في تأريخ الفكر السياسي، يكون الأمر معكوساً، فالعديد من المعادين للساميّة ينتقدون إسرائيل والصهيونية ليُغَطّوا على كراهيتهم لليهود. كما أن ازدياد معاداة الساميّة بين المسلمين في ألمانيا يمثل مشكلة أيضاً. ففي عام 2017، نُشِرت دراسة حول آراء اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط تجاه الاندماج والهوية واليهود والمحرقة، أشارت إلى أنَّ كلاً مِن مُعاداة إسرائيل والساميّة مُنتشرة على نطاق واسع بينهم. لذا يجب التصدي لهذا التشوه الفكري بشِدّة، وإيصال رسالة لا تقبل التأويل بأن ثقافة الكراهية لا مكان لها في المجتمع الألماني، الذي لا ينبغي له أيضاً توجيه أصابع الاتهام بمعاداة الساميّة للمسلمين فقط، فليسوا هُم مَن قتل ستة ملايين يهودي. بالتالي، تظل معاداة الساميّة مشكلة ألمانية قبل كل شيء، بدليل صُعود أسهُم حزب البديل لأجل ألمانيا اليميني المَعروف بتَهوينه لجرائم النازية، لأنَّ بعض المفاهيم تبقى مخزونة في ذاكرة بعض المُجتمعات ولا وَعي أفرادها، الذين يتوارثونها جيلاً بعد جيل، بالرغم من أنَّ التصريح بكراهية اليهود يعتبر في ألمانيا جُرماً يُعاقب عليه القانون، مُنذ مجازر الأفران على يد النظام النازي. لكن سواء بوعي أو دون وعي، فإن كراهية اليهود موجودة، ساهم في تناميها استقبال مهاجرين مِن مُجتمعات ترَبّت على أنَّ هذه الكراهية دليل وطنية وتدَيّن، وهي تمثل بالنسبة إلى بعضهم واجباً شرعياً يُسأل عنه يوم القيامة، بل إنَّ بعضهم كل حلمه هو أن يَنال فرصة رَميهم في البحر، لأنه يعتقد بأن هذا الأمر سيَضعه في الجنة مع الأنبياء والأولياء والصديقين!
للخروج مِن دَوّامة هذا الصراع المُجتمعي الخطير الذي تعيشه ألمانيا، والذي يتصاعد ويجذب أناساً مغيّبين جُدد يومياً، يجب أولاً تعزيز ثقافة تقبّل الآخر، بصفته إنساناً وليس لأنه من نفس الدين أو العِرق، على حساب ثقافة الكراهية. ومُكافحة معاداة الساميّة بين المسلمين وغير المسلمين، ومُحاكمة من يُثير الكراهية ويدعو للعُنف ولو بكلمة ضد المسلمين وغير المسلمين بقوة وحَزم. ثانياً، يجب تفكيك عقلية القطيع، التي بدأت تنتشر في كل دول العالم، ومنها ألمانيا، والتي تغذيها مواقع التواصل التي باتت مَشاع لكل من هَب ودَب مِن المُختلين لتمرير وتسويق آديولوجياتهم بين الناس ووسط الشباب تحديداً، الذين يستقبلون كل ما يتابعونه فيها. لذا نراهم أكثر الناس اندفاعاً في التظاهُرات وتطرفاً في الشعارات التي تدعي الدفاع عن أهالي غزة، وهي في غالبيتها رسائل دَعم لحَماس وكراهية لليهود، إلا ما رحم ربي. وهنالك مثلهم طبعاً في إسرائيل. فالنظرة الإنسانية تتلاشى يوماً بعد آخر لصالح الاندفاع الأعمى والتطرف لأحد الجانبين، إذ يتِم التغاضي عن الحقائق لصالح فورة الاندفاع العاطفي، والنظر للصِراع بشكل غير موضوعي يزيده دموية. ثالثاً، وهو الأهم على المَدى البعيد، التعليم، إذ يَتعيّن على المؤسسات التعليمية تثقيف الأطفال وتوعيتهم بشأن معاداة الساميّة والمسلمين والأقليات عُموماً. فمنذ سقوط النازية، وانتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن تدريس التاريخ والعلوم الاجتماعية يوماً أكثر أهمية مما هو عليه اليوم، لأنه مَن وضَع حينها أساس المجتمع الألماني الحُر الذي عرفناه خلال العقود الماضية، وهو نفسه من سيُساعده اليوم على تجاوز مِحنته الحالية، وعلى الصُمود مستقبلاً.
التعليقات