قام المستكشفان جياني بيس وميشيل بولين بتنفيذ دراسة ديموغرافية في عام 2004، أطلقوا إثرها مصطلح "المنطقة الزرقاء" على مقاطعة نوورو في سردينيا، والتي تضم أكبر عدد من المعمرين الذين تجاوز بعضهم المئة.
وأطلقت نتفلكس حديثاً برنامجاً وثائقياً جميلاً بعنوان "العيش حتى 100 عام: سر المناطق الزرقاء"، وفيه يزور دان بويتنر، وهو مستكشف يدرس "المناطق الزرقاء" منذ عقدين، خمس مناطق زرقاء يعيش أهلها متوسط حياة أطول من المتوسط، والمناطق التي زارها هي سردينيا (إيطاليا) وأوكيناوا (اليابان) ونيكويا (كوستاريكا) وإيكاريا (اليونان) ولوما ليندا (كاليفورنيا)، وقد أضاف بويتنر سنغافورة كمدينة حديثة تم بناؤها هندسياً لتكون مدينة زرقاء.
رصد بويتنر في سردينيا بعض أسرار طول العمر، منها الإعتناء بكبار السن، والتحكم بالتوتر النفسي، وكثرة النشاط والحركة، واعتماد نظام غذائي متوازن يتناول السكان فيه الكربوهيدرات الجيدة. وفي أوكيناوا، أشار أيضاً إلى بعض الأسرار التي وجدها كاعتماد مبدأ الإيكيجاي (يعني حرفياً باليابانية "قيمة الحياة" أو "هدف الحياة"، ويتلخص في أربعة عناصر أساسية هي أن تحدد وتعمل ما تحب [شغفك] وأن تعمل ما يحتاجه العالم [مهمتك] وأن تعمل ما تجيده [مهنتك] وما يمكنك من الحصول على أجر في مقابله [وظيفتك]). والجميل في أوكيناوا أيضاً اعتماد أهلها مبدأ الموآي (أو MOAI وتعني حرفياً الاجتماع من أجل هدف مشترك) وينتج عنها مجموعات دعم اجتماعي هدفها تقديم دعم اجتماعي ومالي وصحي وروحي بين السكان، وخاصة كبار السن. ومما لاحظه بوينتر أيضاً في لوما ليندا أنَّ التطوع الاجتماعي والإيمان وممارسة الشعائر الدينية هي أيضاً من أسرار طول العمر.
بعد دراسة أنماط المعيشة والنمط الغذائي المتبع في هذه المناطق، رسم بوينتر القواسم المشتركة للمناطق الزرقاء: فأولاً في المناطق الزرقاء هناك مشاهد للتدين والإيمان بوجود هدف للحياة وقضاء أوقات ممتعة مع توفير الوقت اللازم للراحة، وثانياً لاحظ أن كل المناطق الزرقاء يتحرك فيها سكانها بشكل يومي بنشاط ويقومون بأعمال البستنة وأعمال حرفية يدوية ويمارسون الرياضة، وثالثاً لاحظ أيضاً قاسماً مشتركاً هو تناول الطعام بشكل حكيم، حيث يتناول السكان الطعام والشراب بشكل معتدل ومتوازن، ويحتوي طعامهم غالباً على مضادات الأكسدة، ويعتمدون أكثر على النظام الغذائي النباتي ويزرعون ما يأكلون ويشربون مما يصنعون. أمَّا القاسم المشترك الرابع المهم أيضاً فهو التواصل، حيث يؤمن سكان "المناطق الزرقاء" بأنَّ العائلة تأتي أولاً، ويؤمنون بالترابط الوثيق مع الشريك وبالعلاقات الاجتماعية الصحية والاحترام المتبادل.
تشير "الإيكونوميست" إلى أن الدراسات الحديثة تبين أن 10 بالمئة فقط من البالغين في أميركا يستهلكون حصتهم اليومية الموصى بها من الخضار، فيما 12 بالمئة يحصلون على ما يكفي من الفواكه. ويتجه الأغلبية إلى سوق المكملات الغذائية. وتشير الدراسات إلى أن 54 بالمئة من سكان أميركا الشمالية و43 بالمئة من الآسيويين يتناولون المكملات الغذائية، والأنواع الأكثر شيوعاً منها هي الفيتامينات المتعددة وفيتامين D وأحماض أوميغا 3 الدهنية. كما تشير التقديرات إلى أنَّ قيمة السوق العالمية للمكملات الغذائية بلغت 152 مليار دولار في عام 2021، مع توقع نمو سنوي بواقع 9 بالمئة حتى عام 2030. مع ذلك، فإنَّ صناعة المكملات الغذائية في العديد من مناطق العالم ما زالت ضعيفة أو غير موجودة، وهناك ندرة في الأبحاث الدقيقة حول فوائدها ومخاطرها.
وتدعم الكثير من العلوم فكرة وجود صلة قوية بين ما يأكله الناس وبين صحتهم العقلية. فقد أظهرت الدراسات مثلاً أنَّ نقص فيتامين B12 يسبب الاكتئاب وضعف الذاكرة ويرتبط بالهوس والذهان، كما تؤدي المستويات المنخفضة من فيتامين D إلى زيادة مخاطر الإصابة بالخرف والسكتة الدماغية واضطرابات النمو العصبي.
لا يزال الطب النفسي الغذائي يحبو في بداياته، وعندما يتوصل الباحثون إلى معرفة المغذيات الدقيقة التي تؤثر على الدماغ (يشكل 2 بالمئة من كتلة الجسم ويستهلك 20 بالمئة من الطاقة الأيضية التي ينتجها الجسم بالاستقلاب الغذائي)، فإنَّ المرحلة التالية ستكون تحديد كيفية قيامها بذلك. وهناك مجال جديد آخر من الأبحاث يمكن أن يساعد في ذلك، وأحد أكثر التطورات العلمية إثارة للاهتمام في السنوات الأخيرة هو اكتشاف أهمية الكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء كوسيط بين ما يدخل الفم وما يحدث في الدماغ. وبحسب الباحثين، فإنَّ الميكروبات تشكل نظاماً بيئياً معقداً يعرف باسم الميكروبيوم، وهذه الميكروبات تحتاج إلى مغذيات دقيقة. والنظام الغذائي الحالي الذي يستهلكه الكثيرون يؤدي إلى خلل في ميكروبيوم الأمعاء (الميكروبيوم مستعمرة مكونة من 100 تريليون ميكروب تعيش في الأمعاء البشرية، وتعد المصنع الذي يفكك الطعام ويحوله إلى مواد مختلفة يحتاجها الجسم للقيام بوظائفه، بالإضافة إلى تلك التي تسبب اعتلال الصحة أيضاً، والميكروبيوم الخاص بكل شخص فريد من نوعه)، والأدلة تزداد على وجود صلة بين الأمعاء والدماغ فيما يسمى بالسايكوبيوم، وهو جزء من الميكروبيوم، وقد أظهرت التجارب أنَّ أنواع الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الزبادي على وجه التحديد والأطعمة المخمرة بشكل عام تقلل من القلق. و يقول الطب إنَّه يمكن تغيير قدرة الشخص على التعامل مع التوتر عن طريق سلالة واحدة من البكتيريا، وهكذا ظهرت فكرة "المضادات الحيوية النفسية"، وهي بكتيريا يكون لها عند تناولها تأثيرات مماثلة لمضادات الاكتئاب أو الأدوية المضادة للقلق.
ابتكر العالم البرازيلي كارلوس مونتيرو في عام 2009 مفهوم Ultra- Processed Foods (يعرف اختصاراً باسم UPFs)، أي الأطعمة الفائقة المعالجة. وقدم مونتيرو نظاماً يقوم على تمييز الأطعمة حسب درجة التصنيع ومعالجتها، ويقسم الأطعمة إلى أربعة أقسام: أولا: الأطعمة غير المعالجة أو المعالجة بالحد الأدنى، وثانياً: مكونات الطهي المصنعة، وثالثاً: الأطعمة المصنعة، ورابعاً: الأطعمة المصنعة الفائقة المعالجة.
الأطعمة المصنعة الفائقة المعالجة، والتي نراها اليوم بكثرة على أرفف المتاجر، تخفي وراءها أهوالاً من العناصر الغذائية السيئة والتي جعلت التسوق عملاً خطراً. فتصنيع هذه الأطعمة بطريقة فائقة المعالجة يجعل طعمها مستساغاً كما أنها سهلة التناول، وقد تم الكشف عن حجم المشكلة في 2019 من قبل باحثين في المعاهد الوطنية للصحة في أميركا، حيث قاموا بعزل متطوعين إلى مجموعتين، وعلى مدار أسبوعين، تم إطعام إحداهما مجموعة أطعمة فائقة المعالجة فيما اتبعت الأخرى نظاماً غذائياً غير معالج. وقد أثبتت النتائج أنَّ المجموعة التي اتبعت نظاماً غذائياً يعتمد على الأطعمة الفائقة المعالجة ازداد وزن أفرادها لأنهم صاروا يتناولون 500 سعرة حرارية إضافية يومياً، أو ما يعادل تقريباً السعرات الحرارية الموجودة في سندويش البيغ ماك من ماكدونالدز، بينما نقص وزن أفراد المجموعة الثانية وتحلوا بنشاط أكبر. وقد تم اليوم الربط بين تناول الأطعمة الفائقة المعالجة والتصنيع (UPFs) وسوء الحالة الصحية وازدياد مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والدماغية، وكذلك ازدياد فرص الإصابة بأمراض السرطان. وقد وجد الدارسون أن الأطعمة الفائقة المعالجة تؤثر أيضاً على ميكروبيوم الأمعاء.
يقول واضع أسس الطب في أثينا القديمة أبقراط: "دع الطعام يكون دواؤك والدواء طعامك". ويبدو أنَّ هذا القول ما زال ساري المفعول حتى الساعة، ونأمل أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي في تطوير الخوارزميات والتطبيقات الملائمة لكل شخص لتحديد ما يجب أن يتناوله، وقد بدأنا نرى الثلاجة الذكية وعربة التسوق الذكية والمتجر الذكي والوصفات الذكية، وما نحتاجه إرادة ذكية نبني بها مدناً زرقاء لحياة صحية أطول.
التعليقات