كلّ الثورات والحركات الوطنية عبر التاريخ، كانت تقوم ضد السلطات الحاكمة التي تقمع الحريات وتصادر الحقوق وتزج في السجون بكل من ينادي بتحقيق العدالة والمساواة بين جميع أبناء المجتمع وعدم التفرقة بينهم، وكانت تدعو إلى محاربة الأمراض الاجتماعية السائدة في مؤسسات وأجهزة الدولة من الفساد والرشوة والمحسوبية وصلة القرابة التي تنخر في جسد المجتمع. مقابل كل هذا، وبدل أن تقوم السلطات الحاكمة بالاستجابة إلى تلك المتطلبات، كانت تنفذ عمليات اعتقال تعسفي وتزج بالثوار في السجون من دون محاكمة.

في القرن الحادي والعشرين، حيث التقدم والتطور سمة كل مجالات الحياة، ما زالت هناك الكثير من الدول تحكمها فئات قليلة تقمع شعوبها وتؤسِّس الكثير من الأجهزة الأمنية كي تكون سيوفاً على رقاب الشعب فارضة سلطتها. ليس هذا فحسب، بل تعلن في الكثير من الأحيان، ولعقود، حالة الطوارئ حتى يتسنى لها القيام بعمليات الاعتقال والزج بأصحاب العقول النيَرة والمطالبين بالحرية في السجون من دون محاكمات، والأمثلة كثيرة على الساحة الدولية. مع العلم أنَّ المنظمات والجمعيات المهتمة والمختصة بحقوق الإنسان أصدرت الكثير من المعاهدات والبرتوكولات والمواثيق التي تنص على وجوب احترام حريات الإنسان والحفاظ على كرامته، لكن هيهات، فتلك السلطات لا تؤمن بالمواثيق الدولية ولا تطبقها، مع العلم أنَّ دساتيرها تنص عليها، لكن بنود احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية تظل حبراً على ورق، فلا تجد تلك المبادئ طريقها إلى التنفيذ، في وجود الكثيرين ممن هم فوق القوانين والدساتير ولا أحد يجرؤ على محاسبتهم.

ومع الأسف، قامت بعض الثورات من أجل محاربة الفساد في مجتمعاتها، لكنها ارتكبت ما هو أسوأ من سابقاتها. فهذه الثورة الفرنسية قامت بين عامي 1789 و1799، وكان لها تأثير جم على الدول الأوروبية، وكانت سبباً في إسقاط الملكية وتأسيس النظام الجمهوري، إلا أنها التهمت أبناءها، حيث قامت باعدام أكثر من 16 ألف مواطن بالمقصلة، بعدما وجهت إليهم العديد من التهم.

في السنوات الماضية، قامت في بعض الدول العربية حركات مطالبة بالتغيير السياسي، وخصوصاً بعد ما يسمى "الربيع العربي"، هذا الربيع الذي جلب الويل والدمار للبنية التحتية لتلك الدول، وكان سبباً في خلق الفوضى في الشارع، وقسَّم المجتمع إلى فئات وطوائف، وكان سبباً في ظهور العديد من الجماعات المسلحة والمتطرفة التي ارتكبت الكثير من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، وقتلت المواطنين على الهوية، فكل من لم يؤمن بأفكارها وثقافتها يكون كافراً ومرتداً في نظرها، وقامت بإصدار العديد من الفتاوي التي تسمح بقتل الآخرين.

من جهة أخرى، قامت تلك الحركات ومن نصبوا أنفسهم قيادات لها بإطلاق تسمية معارضة وطنية على أنفسهم، والكثير منهم لا يمت إلى الوطنية بصلة، فارتبطوا بجهات خارجية ونفذوا أجندتها ومصالحها، وأمعنوا في نهب وسرقة المواطن المسكين الذي لا حول له ولا قوة، وهو دفع ويدفع الفاتورة. كذلك، لم يكن لدى هؤلاء أي برنامج أو خارطة طريق للسير بالمجتمع إلى تحقيق العدالة وإقامة الدولة المعاصرة القائمة على احترام حقوق الإنسان وحرياته، وقد أراد هؤلاء أن يكونوا بدلاء عن السلطات الحاكمة الديكتاتورية، لكنهم لم يكونوا أفضل منها، وهنا لا نعمم، حيث هناك الكثيرين من الوطنيين الشرفاء الذي أرادوا إقامة دولة المواطنة وتطبيق الديمقراطية في كل مؤسسات وأجهزة الدولة، لكن لم يفسح لم المجال لذلك، وأبعدوا عن الحراك الثوري، فانتشرت الفوضى وعمت، وانقسم المجتمع، وتدخلت الخارج في شؤون الدولة، وبعضها بدأت تصارع بعضاً على أرض غيرها.