على مدى القرون الأخيرة من تاريخ الحضارة الإنسانية، ماذا يعني الغرب لنفسه وللآخرين في سياق التطور والعلوم والاكتشافات والاختراعات وكذلك المفاهيم والقيم الثقافية والأخلاقية، ولماذا، وكيف، استمرت سيادته وتمددت منجزاته على هذا المدى، مما شكل هيمنة شبه مطلقة على نطاق فاعلية الوجود الإنساني؟ فمفاهيم مثل الحضارة والتاريخ والفلسفة الغربية، التي رسمت وحددت الكثير من مظاهر الإنسانية ورسمت مداراتها بما أنتجته من اتجاهات إنسانية شاملة، احتوت نظماً في العلم والاقتصاد والثقافة والسياسة، وقاد هذا التعدد في ثرائه المفاهيمي والتطبيقي إلى تقدم لا يقاس على أي حضارة سابقة، وربما قادمة في المدى المنظور.

يوشك العالم الغربي في سياق الظاهرة التشاؤمية التي تنبثق عن الحروب والمجاعات والمواجهات على مستوى قوى دولية نووية، وكارثة المناخ وجوائح الأمراض، على الدخول إلى مرحلة يصعب تحديدها ووضعها في مألوف الصياغات الحضارية بمفهوم التحدي أو الاستجابة أو الهيمنة بمصطلح المؤرخ الشهير أرنولد توينبي، والقدرة على إدارة الصراع من حيث انطلاق تشكل العالم. ويبدو أن العالم في مراحل غليانه نسي وراءه ما عده إلى وقت قريب نماذج وصل إليها، وبالتالي استنفدت الحاجة إلى الأفكار القديمة، وهي بالطبع غير مثالية؛ فمفاهيم كالعولمة ونهاية التاريخ وقبلها صدام الحضارات لم تعد كافية لتفسير ما يواجهه عالم اليوم من تحديات تضعف الاستجابة لها. صراعات تستتبعها إنجازات بنيت عليها نظريات واستراتيجيات كان الظن بها أن تغير من شكل الصراع والتنافس، أو تخفف من حدَّة المواجهة المحتملة بين حضاراته وشعوبه. فحالة الترابط Connectivity التي أوجدتها موصولات الاتصالات عالية السرعة بنطاقاتها غير المحدودة، محمولة على تطبيقات تزداد ابتكاراً وتقنية يوماً بعد آخر، زادت حدة من مخاوف استخدامها ضد إدارة الصراع الحضاري المتوهم والحقيقي من قبل جماعات أو ايدولوجيات لا زالت رافضة للنموذج الحضاري الأوحد.

وما بين الإنجازات التقنية والمشكلات الاقتصادية وظواهر المناخ ومهددات الأسلحة النووية وتجسد العنف البشري في حروب الإبادة الجماعية والشعوبية السياسية، توشك كل هذه المهددات أن تعيد العالم إلى منطلق الغزيرة البشرية البدائية. حالة يمكن أن تعود بالإنسانية إلى سيادة الوحشية كما صورها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز في مؤلفه "اللفياثان". وبعد خمسة قرون من السيادة كما تزعم الاتجاهات التاريخية العقلانية، تخلص العقل الغربي متحرراً من قيود عالم قبل ما قبل كوبرنيكوس إلى عالم الأنوار في طريق التطور الذي مهد للمسار العلمي في منجزاته الحضارية ومفاهيمه التأسيسية الفلسفية. والحضارة لم تكن حدثاً تاريخياً غربي التصميم، فقد عرف العالم حضارات سابقة للغرب بآلاف السنين، لكن احتواء الحضارة الغربية، مستفيدة مما سبقها من حضارات قديمة، على المكون العلمي، ربما ميزها عن نظيراتها الأخريات.

دائماً ما شكل فلاسفة التاريخ في الغرب بنظرياتهم التحليلية لمسار التطور الغربي على تباعدها الزمني مفارقة في فهم المسار التاريخي من وجهة النظر الغربية، لكن أبرز هؤلاء من درس الحضارة والتاريخ من أمثال الفيلسوف الألماني أوسفالد شبينغلر في "انهيار الغرب"، وصولاً إلى الأميركيين صموئيل هنتنغتون في "صراع الحضارات" وفرانسيس فوكاياما في "نهاية التاريخ"، وبطبيعية الحال الإنكليزي أرنولد توينبي ومؤلفه "دراسة التاريخ"، وغيرهم ممن حاولوا تفسير صعود وسقوط المنجزات الحضارية في سياق الوعي التاريخي. لكن لم تقطع هذه النظريات بالنهاية الحتمية للحضارة الغربية؛ بل قد تزداد حدة مواجهاتها مع الثقافات والحضارات الأخرى. وإن استخدمت من جماعات من خارج النطاق الغربي كاستشهادات من داخل السياق نفسه. ولأن بنية هذه التنبؤات أو التوقعات قامت على مقاييس حضارات سابقة تختلف في القوة وحدة التأثير بالمعني الجغرافي والتاريخي.

إنَّ مفهوم الانهيار بمعناه الكارثي Apocalypse ظلَّ تفكيراً رغبوياً تتخلله تفسيرات ميتافيزيقية تركن إليه الأمم والجماعات المقهورة من سطوة لا تملك حيالها من أسباب المواجهة المادية أو التفوق في تجلياته العلمية والتقنية وبطبيعة الحال ما تشكله من تحدي حضاري لا سبيل إلى تجاوزه. فالانهيار كما تفسره التنبؤات يدخل في دائرة التمنيات أكثر من الحقائق المادية على الأقلّ. فإنَّ الذي ينهار هو النظام العالمي القائم ليس بمعناه السياسي وحسب، وإنما بما يشكله من ناموس كوني طاغٍ بمؤثراته ومنجزاته من حيث المنشأ والإدارة والتحكم. فقد انهار من النظم التي تمتد جذورها إلى التفكير الغربي نفسه كالاشتراكية في نهايات القرن الماضي، وقبلها النازية، لكنه انهيار جزئي في صراع الايدولوجيات ذات الصبغة الكونية المتطرفة، واستمر الجزء الآخر من النموذج، الليبرالي على وجه الدقة، في تسيده الفكري والمادي. فالانهيار بالعوامل الطبيعية والبيئة (كوارث، وأمراض، وأسلحة نووية) يفرض نهاية كما لو كانت النهاية للوجود البشري البيولوجي، وهي نهاية يحاول العالم تفاديها بشتى السبل من معالجات لمشكلات المناخ والحد من سباق التسلح النووي وغيرها من الحلول المشكوك في فعاليتها من حيث التطبيق والتزام.

راهن الغرب على ما انتهت إليه صيغة النظام العالمي بين قوى عسكرية متفوقة وقابلة للاستخدام ومؤسسات دولية توجهها مصالحه، وكون بذلك قوى مهيمنة راسخة وقوى أخرى صاعدة تخالفه في الأسس والتوجهات السياسية. وعليه، لم تعد العوامل التي شكلت ملامح النظام العالمي فاعلة في الحافظ على التوازن من أسلحة نووية وصعود قوى اقتصادية خارج النطاق التقليدي للنظام العالمي ومصالح جيوسياسية تتجاوز حدود خارطة العالم ومبادئه في العدالة وشرعية مؤسساته التي تعتمد على المانحين الأساسين، وهو ما يعني حرفياً دول المنظومة الغربية كالولايات المتحدة وأوروبا واليابان، في الأموال والقوات والمساعدات الفنية غيرها من عوامل تضمن وجوده. ولكن هذه الرهانات مواجَهة بفرضية وجودية أخرى تتصل بالمسار غير المستقيم للتاريخ منذ الفلسفة الإغريقية، أساس الموروث الفلسفي الغربي، وهذا المسار الحتمي للتاريخ قد لا يقود دائماً إلى التطور بالتفسير الهيغلي لفلسفة التاريخ!

أمام غياب البدائل للنموذج الغربي، هل لا زال الوقت مبكراً للتساؤل عن نهايته؟ وهل ستكون نهاية استباقية مرغوب فيها أم فزع يلغي الوجود الإنساني برمته وليس حصراً على جزء من الحضارية الإنسانية. أزمة الغرب حيال تناقض مواقفه الأخلاقية في بعدها الإنساني وانحيازه السياسي يضعه أمام اختبار مصداقية أخلاقية في الجانب السياسي لا تعني في حدود التساؤل المنطقي نهاية أو انهيار داوٍ تتردد أصداؤه مؤكدة تنبؤات النهاية الحتمية. ولم يزل التوصل إلى الحقائق التاريخية عبر التنبؤ تخالطه خرافة مقيمة في العقل البشري أقرب إلى قراءة الطالع منها إلى التقديرات الإحصائية التحليلية. فالنهاية في لا تحقق الحلم المثالي برؤيته المتصورة في أذهان المناوئين للنموذج الغربي التي تقوم على المحو الشامل دون قدرة على إحلال بدائل مقبولة.