من يرى حجم الخراب والدمار الذي شهده قطاع غزة جراء العدوان الوحشي من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا يمكن أن يصدق احتمال عودة مساكن ومنشآت تحولت إلى أكوام من الركام، إلى أبنية تصلح للحياة ثانية. فالعدوان الغاشم لم يرحم صغيراً ولا كبيراً، ولم يترك مسجداً أو كنيسة، بل دمر الأرواح والمنشآت، وعطل كافة مناحي الحياة التي يحتاج إليها أهالي غزة المكلومين. المشهد كارثي والأوضاع متدهورة، والشهداء يتساقطون يومًا بعد يوم، ولا أحد يعرف متى ستنتهي الكارثة الإنسانية، والحرب الظالمة غير المتكافئة التي يخوضها الاحتلال الصهيوني الجبان تجاه أشقائنا العُزل من المدنيين الفلسطينيين.
ترى حماس أن مواجهة طوفان الأقصى لم يكن بالإمكان تجنبها، لكن هذه الحرب وضعت المدنيين في مرمى مدافع وبنادق جيش الاحتلال. وقد يكون ذلك بمثابة عدم إدراك للعواقب الوخيمة، فما كان لرئيس حكومة الاحتلال سوى اتخاذ قرار غادر لا يصدر سوى من شخص لا يملك من العقل "ذرة"، بالهجوم الموسع والاجتياح الكامل لقطاع غرة، فسالت دماء الشهداء والجرحى كالأنهار، في مشاهد أبكت الأعين، وأصابت القلوب بحسرة وألم على أرواح الأبرياء، وتخطى تعداد الشهداء أكثر من 20 ألف روح، غابت عن الدنيا، وذهبت في معية ورحمة خالقها.
تشير الإحصائيات إلى أنَّ الاحتلال الإسرائيلي دمر العديد من المنازل والأحياء في قطاع غزة، إذ أجهز على حي الفرقان باستهداف 450 هدفًا في داخله، بالإضافة إلى تدمير الأبراج السكنية في حي الرمال وأشهرها برج فلسطين، وأزال تجمعات سكنية بالكامل، إذ قام بتدمير ثمانية أحياء سكنية تضم 352 شقة سكنية، بالإضافة إلى 40 بناية عسكرية، فضلًا عن تدمير حي الشيخ رضوان وحي النصر وحي الكرامة، كما شهدت مدينة عبسان قصفًا كثيفاً جدًا أدى إلى تدميرها، إذ تجاوز عدد الوحدات السكنية المدمرة 41 ألف وحدة، ويُذكر أن 92 بالمئة من منازل قطاع غزة تدمر جراء القصف الإسرائيلي، ولذلك نتوقع أن يتم تدمير معظم الوحدات السكنية في القطاع التي تقدر بنحو 335 ألف وحدة مع نهاية الحرب. وفي ظل ارتفاع الرقم القياسي لأسعار تكاليف البناء في غزة، ترتفع تكلفة إعادة إعمار هذه المباني بشكل كبير.
وتعرض حوالى 250 مدرسة من مدارس القطاع إلى التدمير الكلي، ووفقًا لتكلفة بناء مدرسة في القطاع التي تُقدر بحوالي 3.8 مليون دولار أميركي بحسب تقديرات منظمة الأونروا، فإن التكلفة التقديرية لإعادة بنائها تتجاوز ملياري دولار، وهو ما يوضح التكلفة الكبيرة لهدم هذا العدد من المدارس. ويُركز الاحتلال الإسرائيلي في قصفه لقطاع غزة على القطاع الصحي بشكل كبير، إذ تم تدمير عدد ملحوظ من المستشفيات داخل القطاع، حيث تم قصف المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة، بالإضافة إلى قصف مستشفى العيون الدولي وتوقف مستشفى بيت حانون عن العمل، كما تم استهداف المستشفى الأهلي العربي، والمستشفى الميداني الأردني، والمستشفى المعمداني، ومستشفى الشفاء، وغيرها من المستشفيات الأخرى، ولهذا من المتوقع أن تحتاج مستشفيات القطاع إلى إعادة إعمار بتكلفة تقديرية تناهز 1.7 مليار دولار، كما أن انقطاع الكهرباء تسبب في إلحاق الضرر بالعديد من المستشفيات، إذ أصبحت المستشفيات في غزة تعمل بطاقة المولدات الكهربائية.
وبالرغم من الدمار الذي خلفته الحرب، إلا أن الشعب الفلسطيني يزداد صلابة وصموداً وتمسكاً بالأرض ورفضاً للتخلي عن الوطن، في مواجهة جيش اُنتزعت الرحمة من قلب قياداته وجنوده، أمام حالة من الصمت والعجز التام من المجتمع الدولي، الذي اكتفى بدور المتفرج، على مشاهد سفك الدماء.
الحرب سوف تنتهي إن عاجلًا أم آجلًا، ولا بدَّ من التفكير في مستقبل غزة، وكيفية إعادة الإعمار، ولن يحدث ذلك إلا بتكاتف الجميع، ولن يؤدي الخلاف بين حركات المقاومة سوى للفشل في تحقيق الهدف الرئيسي، وهو تحرير الأرض، فلا بدَّ من تكاتف الجميع، والتفكير نحو كيفية الخروج من مأزق الاحتلال، وهو الأمر الذي يتطلب توحيد الصفوف.
الأزمة غير المسبوقة التي يواجهها قطاع غزة حاليًا، أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، يدفع ثمنها أهالي القطاع، وأكثرهم الشباب الذين يواجهون مصيرًا مجهولاً، الأمر الذي يتطلب مشروعًا وطنيًا ضخمًا، يعتمد على استراتيجية وطنية لتشغيل الشباب واستثمار طاقاتهم وإشراكهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتزويد مؤسسات المجتمع المدني بالدماء الشابة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع فرص العمل والثروة.
تنفيذ خطة إستراتيجية مدروسة، يحتاج إلى تحقيق الوحدة الوطنية على أرض الصمود والمقاومة والتحرير، وتحرير فلسطين من العدو المغتصب هو الخلاص الحقيقي للشعب في قطاع غزة والضفة الغربية وكل فلسطين، وإلى حين انتزاع وتحقيق النصر والتحرير، لا بدَّ من صمود الشباب في وطنهم، لأنهم أداة النصر والتحرير، وبالرغم من استشهاد وأسر آلاف الشباب في حرب التحرير المتواصلة، إلا أنهم استطاعوا بعزيمة وإصرار حفر الأنفاق، وخوض العمليات الفدائية، وصنع صواريخ المقاومة، وتنفيذ عمليات تجاه مستوطنات الاحتلال.
وتتطلب آلية إعادة الإعمار الجديدة، منح الفرصة كاملة للشباب الفلسطينيين بمختلف شرائحهم، فلا بدَّ من تنشيط النضال الوطني الفلسطيني لإعادة بناء البنية التحتية وإنهاء حالة الانقسام السياسي، وتوحيد الصف، الأمر الذي يساهم في تعزيز ثقة الفلسطينيين بقيادتهم كوسيلة لتحقيق المستقبل السياسي المنشود، وسيستلزم ذلك تشكيل لجنة إشراف على آلية إعادة الإعمار، لذا يجب على القيادة الفلسطينية والمجتمع المدني التحرك على الصعيدين الوطني والدولي، والإفادة من تنامي التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، ورفع مستوى الوعي بشكل خاص للشباب الذين هم في طليعة النضال الفلسطيني الجديد من أجل التحرير.
وتشكل الجبهة السياسية الفلسطينية الموحدة ضد آلية إعادة الإعمار الاستعمارية منبرًا مثاليًا لتعزيز الوحدة على المستوى السياسي، وهذا من شأنه أن يسهم في استعادة ثقة الفلسطينيين في قيادتهم، وبناء الثقة بين مجتمع المانحين حول تمويل خطة إعادة الإعمار التي تم إصلاحها بقيادة فلسطينيين موحدين، وتشكيل مجلس وطني غير حزبي لإعادة الإعمار، ويتألف من أفراد محترفين ومتخصصين من جميع أنحاء فلسطين المستعمرة، لضمان فصل أموال إعادة الإعمار عن الأموال العامة الممنوحة للسلطة الفلسطينية وحكومة حماس، ويجب أن يلعب هذا المجلس دورًا نشطًا في جميع مراحل عملية إعادة الإعمار، بما في ذلك التصميم والتخطيط والتنفيذ والمراقبة والتقييم.
ومع توقعات بارتفاع فاتورة إعادة إعمار غزة، تساءل كثيرون حيال الجهة التي سوف تتحمل نصيب الأسد وتدفع الجانب الأكبر من التمويل، لكن يبدو أن الإجابة على هذا التساؤل الملح ليست بالأمر السهل، وهو ما يتطلب منح الفرصة كاملة للشباب، وتوفير التمويل اللازم لإعادة الإعمار من مختلف الجهات المانحة. وكيلا يتقلص دور الشباب في المشهد السياسي في ظل سيطرة صُناع القرار والانفراد بالسُلطة، وهو ما يهمش دور الشباب، لا بدّ من إعادة النظر في السياسات القديمة، ومنح فرصة حقيقة للشباب، ووضع خطط وبرامج تهدف لإعادة الإعمار الحقيقي، وتوفير الدعم المادي اللازم، فبدون دعم مالي يتناسب مع حجم الكارثة، لن تنجح أي خطة لإعادة الإعمار. الشباب هم المستقبل، ومن دونهم لن تستطيع أي دولة النهوض والتغلب على الأزمات والتحديات.
التعليقات