طوَّر الأكاديمي والمفكر والسياسي الأميركي جوزيف ناي مفهوم "القوة الناعمة" في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية عندما طرح هذا المفهوم في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان Bound to Lead: The Changing Nature of American Power (مقدّر للريادة: طبيعة القوة الأميريكية المتغيرة). وكان ناي قد حدد ثلاثة أبعاد أساسية للقوة في العلاقات الدولية هي القوة العسكرية (قوة صلبة) كبعد أول، وتشير إلى استخدام القدرة العسكرية القسرية والتهديد المباشر للتأثير على سلوك الدول، والقوة الاقتصادية (قوة صلبة) كبعد ثان، وتنطوي على التأثير على الدول من خلال الوسائل الاقتصادية والتي تشمل العقوبات والمساعدات المالية لإجبار الدول على اتباع مسار عمل معين، والقوة الناعمة كبعد ثالث، وهي جوهر نظرية ناي وتمثل قدرة أي بلد على التأثير في الدول من خلال جاذبيتها الثقافية ومثلها العليا وقيمها السياسية والدبلوماسية.

هذه الأبعاد، بحسب ناي، تتقاطع في كثير من الأحيان. فمثلاً يمكن للجاذبية الثقافية لدولة ما (القوة الناعمة) أن تعزز علاقاتها وشراكاتها الاقتصادية (القوة الاقتصادية)، أو يمكن للتحالفات العسكرية (القوة العسكرية) أن تعزز النفوذ السياسي (القوة الناعمة). والواقع السياسي الحالي يشير إلى أن النفوذ العالمي الحقيقي يتطلب التوازن والتكامل بين أبعاد القوى الثلاث.

إقرأ أيضاً: تذكرة ذهبية للمستقبل

تستعمل أميركا اليوم، كمثال، نظامها التعليمي، وخاصة جامعاتها العريقة، كجزء لا يتجزأ من قوتها الناعمة، حيث يجتذب الطلاب من جميع أنحاء العالم. وتشتهر ببرنامج فولبرايت (نسبة إلى السناتور وليام فورلبرايت، وتم تأسيس البرنامج في عام 1946 بموجب قانون في الكونغرس الأميركي)، ويهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين شعوب الولايات المتحدة الأميركية والدول الأخرى عن طريق تبادل الأفراد والمعارف والمهارات وتقديم المنح الدراسية. وبدأت الصين باستخدام القوة الناعمة من خلال مشروعات البنية التحتية مثل "مبادرة الحزام و الطريق"، وكذلك عبر الترويج لثقافتها ولغتها عبر معاهد كونفيوشيوس حول العالم. ويستعمل الأتراك والكوريون وغيرهم اليوم الميديا والإنتاج الفني من مسلسلات وأفلام وموسيقى للترويج لثقافة بلدانهم وأماكنها السياحية، و قد طورت دبي أيضاً، باستعمال القوة الناعمة في مجالات السياحة والعقار، مكانتها العالمية لتصبح وجهة رئيسية في عالم السياحة. وفي عالم الأعمال، نجد شركات مثل أبل وسامسونج وتسلا رائدة في استعمال القوة الناعمة من خلال الابتكار والجودة. كما بدأنا نرى تصاعد تأثير القوة الرقمية الناعمة كالدبلوماسية الرقمية والتكنولوجيا الناشئة من الذكاء الاصطناعي والإعلام الاجتماعي الرقمي وخاصة بعد بزوغ مفهوم الاستهلاك الرقمي، حيث صار الفرد منتجاً ومستهلكاً في الوقت ذاته للبيانات الرقمية القيمة من خلال تطور استعمال منصات السوشيل ميديا من إنستغرام وفيسبوك وتيك توك وأكس وغيرها، وأصبح المؤثرون الرقميون جزءاً لا يتجزأ من القوة الناعمة والتي تؤثر كتيراً على النمط الاستهلاكي والآراء والأفكار في السياسة والأزياء والبيئة وغيرها.

إقرأ أيضاً: الشباب اللبناني بين الطموح والتحديات

في مجال الرياضة، استطاعت قطر من خلال الاستضافة والتنظيم الرائع لكأس العالم في كرة القدم 2022 أن تضع البلاد على الخارطة العالمية كوجهة سياحية، وفي السنوات الأخيرة، بدأت المملكة العربية السعودية رحلة استراتيجية مميزة باستخدام الجاذبية الرياضية لتنويع تأثيرها وتعزيز صورتها الإيجابية على الساحة العالمية، متجاوزة شهرتها المعروفة بثروتها النفطية من خلال الاستثمار في لعبة كرة القدم واستقطاب نجوم العالم في الكرة إلى المملكة، بالإضافة إلى الاستثمار في أندية أوروبية وكذلك الاستثمار في لعبة الغولف وإطلاق بطولة السعودية الدولية للغولف وجذب أفضل اللاعبين العالميين، بالإضافة طبعاً لإطلاق مشاريع عالمية وإقليمية ووطنية نوعية ومشاريع سياحية ضخمة ومبادرات بيئية واجتماعية تهدف لمد جسور الثفافة والتعاون مع العالم وتتفق مع رؤية المملكة الاستراتيجية 2030.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

القوة الناعمة تنتهج مبدأ اللاإكراه، وهي بالتأثير القيمي والثقافي تحاول بناء المصداقية التي تؤدي لفرض الاحترام المتبادل والتفاهم العميق، وتلعب دوراً محورياً في عالمنا اليوم.

إنَّ مستقبل الأمم مرهون ببناء نفوذ ذكي عن طريق بناء سياسات خارجية فعالة، وهذا يتطلب بدوره بناء التحالفات وتطوير استراتيجيات تعاون فعال مع الحلفاء، وهذا ما لخصه الجنرال الأميركي المتقاعد جيمس ماتيس عندما قال: "المفتاح الحقيقي ليس هو عدد الأعداء الذين أقتلهم، بل عدد الحلفاء الذي أقوم بتنميتهم، وهذا هو المقياس المهم للغاية".