في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الطاحنة التي يمر بها لبنان منذ ثلاث سنوات، بدأ الشباب اللبناني في البحث عن مهرب خارج البلاد لتأمين مستقبله. ولا يترك هذا الرحيل الجماعي للشباب اللبناني الكثير من الأمل في حدوث تغيير حقيقي للطريقة التي تحكم بها البلاد

الطموح قيمة إيجابية تدفع الإنسان إلى الإبداع والتميز لكي يصل إلى هدفه المنشود، فهو مفتاح النجاح، والهدف الذي يسمو على توقعات الفرد وقدراته. والطموح سمة شديدة الالتصاق بالشباب، لذا نراهم في أغلب الأحيان يرسمون صوراً مشرقة لمستقبلهم، ويحلمون من خلالها بتحقيق أهدافهم وآمالهم المنشودة؛ إلا أن ذلك يتطلب منهم إدراك أنَّ طريق المستقبل ليست معبدة أمام الجميع، بل هي مليئة بالتحديات والصعوبات، ولكنها لا تخلو من الفرص والإمكانات، والمبدع هو من يستطيع تجاوز الصعوبات ومواجهة التحديات واغتنام الفرص للصعود إلى قمة النجاح، تماماً كما قال أحمد شوقي.

يبدو أنّ اقتران السياق الحالي المليء بالتحديات مع ثقة الشباب شبه المعدومة بقدرة الحكومة على قيادة البلاد نحو مرحلة من التعافي المستدام والعادل يشكّل مسبّبًا أساسيًا لمشاعر اليأس والعزلة لدى الشباب. ويدلّ الارتفاع الحاد في معدلات الهجرة والرغبة في الهجرة الدائمة إلى أزمة ثقة عميقة في العقد الاجتماعي في لبنان. ولتبسيط الأمور، يمكن طرح السؤال التالي: هل هذه الهجرة الجماعية نتيجة لقلّة الفرص الاقتصادية، أو ازدياد المحن والصعوبات، أو فقدان الثقة بقدرة البلد على ضمان الشروط الأساسية للأمن البشري؟

يرى كثير من اللبنانيين، ممن عايشوا الحرب الأهلية اللبنانية خلال سبعينيات القرن الماضي، أنه وبالرغم من أهوال تلك الحرب، فإنَّ الضيق الاقتصادي الذي شهدته البلاد ساعتها، لا يقارن بما تشهده حالياً، إذ يصف كثير من المختصين ما تشهده البلاد راهناً بأنه أكبر أزمة مالية واقتصادية ومصرفية تشهدها عبر تاريخها، وهو ما يرشح أن تكون الموجة الثالثة للهجرة في تاريخ لبنان، أكبر حتى من سابقتيها.

وبالرغم ممَّا يعبر عنه كثير من اللبنانيين عادة من أسى لتركهم بلادهم التي عاشوا فيها وارتبطوا بها، فإنَّ كثيراً من التقارير، تقول إن هذا الأسى بدأ يتحول الآن إلى حالة من فرحة الفرار من وضع معيشي مترد، وفي ظل عدم وجود أمل بتحسن الأوضاع في المدى القريب، في وقت يردد فيه معظم اللبنانيين المغادرين أو الراغبين في المغادة أنه ستكون لهم حتما عودة.

يصوغ المسؤولون في البلاد سرديتين عن الشباب اللبناني، إحداهما تحتفي بالشباب المهاجر الناجح من رجال مثقفين ونساء مثقفات ذوي وذوات مؤهلات عالية هاجروا بحثاً عن آفاق أرحب لطموحاتهم ورفع اسم بلادهم عالياً، ثم استثمار رؤوس أموالهم في بلدهم الأم. كُتب لهم ذلك، لا يُتوقع من هؤلاء الشباب العودة ولا المشاركة في انتخاب ممثلين لبنانيين عنهم أثناء إقامتهم في بلاد الاغتراب، بل هم مجرّد أصول مفيدة يُهدف منها إلى تسويق صورة اللبناني المحترف الناجح، رائد الأعمال أو الطبيب أو المهندس أو العالم أو الخبير. لذا، فإنَّ هجرة الشباب ذوي المهارات العالية هي "ضمانة للاستقرار الاجتماعي السياسي"، بحيث "تصدّر سخط الشباب الذي قد يطمح إلى منافسة السياسيين الحاليين في حال بقائهم في الوطن إلى الخارج".


من تظاهرات أزهرت في لبنان في أعاقب ثورات الربيع العربي

بالرغم من البيئة القاتمة التي تحيط بالسياسات العامة والاقتصاد السياسي والتي تتحكم بحياتنا، إلا أنَّ الشباب ما زال يحاول تأمين مستقبل واعد والانخراط في السياسة. يمكننا القول إن الشباب ينظمون أنفسهم سياسياً من خلال ثلاث مجموعات؛ الأولى هي تلك التي تتماشى مع الهوية الطائفية والتركيبات الاجتماعية المعيارية والمتباينة، والتي تختار الالتزام بالأحزاب السياسية الأساسية: وهؤلاء هم "الملتزمون". أمَّا الثانية فتضم المنظمات غير الحكومية الملتزمة بقضايا معيّنة، وهي ليست غير طائفية بالضرورة، لكنها تعرّف عن نفسها أنها "بدائل" للحكام الفاسدين في السلطة: تلك هي "المنظمات غير الحكومية الاحترافية". أما الثالثة فترفض أن تكون منظمات غير حكوميَّة، وتحاول اتباع تنظيم مؤسسي أكثر مرونة وتنظيم الحملات والائتلافات. تتميز هذه المجموعات بأنها أكثر تقدميّة وثوروية في مطالبها الحقوقية وعملها الجماعي: هؤلاء هم "الناشطون التقدميون".

بناءً على تقرير استقصائي صدر عام 2015 عن عيّنة من المنظمات غير الحكومية في لبنان، هناك 8,311 منظمة غير حكومية مسجلة في وزارة الداخلية والبلديات؛ من بينها 1,094 ناشطة فقط. كما يشير التقرير إلى افتقار 41 بالمئة من هذه المنظمات إلى "أنظمة موارد بشرية منظمة" وافتقاد 60 بالمئة منها للموارد المالية وعمل 75 بالمئة منها بميزانية تقل عن 250,000 دولار أميركي. ساهمت اللوائح القانونية في ارتفاع عدد المنظمات غير الحكومية من خلال تسهيلات تقدّمها وزارة الداخلية والبلديات التي تصدر بعد ذلك رقماً للمنظمات غير الحكومية يشرّع وجودها.

"انصبّ التمويل الدولي واستراتيجيات المساعدات بأغلبيتها على المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التابعة للطبقة السياسية، مما أدى إلى تعزيز النظام الطائفي الحالي ودعمه بدلاً من تغييره"

وأركّز هنا على المنظمات غير الحكومية التي تأسست إبّان اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وهي حقبة مفصلية دفعت البلاد نحو سلسلة من التوترات الأمنية والعنف والنزاعات التي اخترقتها لحظات من الحراك الشعبي (حرب إسرائيل عام 2006، وأحداث 7 أيار/مايو 2008، وحرب سوريا عام 2011). وسط تلك الأحداث، وبفضل تمويل سخي من المتبرعين الغربيين الساعين لدعم الإصلاح والتغيير، تم تعبئة الشباب في العشرات من المنظمات غير الحكومية الجديدة التي أُسست بنيّة تعزيز المواطنة وبناء القدرات والحوار بين الطوائف والتلاحم الاجتماعي وحل النزاعات وضمان الحقوق الإنسانية، بالإضافة إلى التعليم والصحة والقضايا البيئية. سمّيت هذه المنظمات بـ"المنظمات غير الحكومية البديلة"، حسب تعريف كلارك وزهار، وقد تركز نشاطها بعد ثورة الأرز في مدينة بيروت حيث اعتمدت في عملها بشكل رئيسي على المتطوعين. استكشف الشباب من خلال هذه المنظمات وسائل التواصل الاجتماعي كآليات جديدة للتواصل، متبعاً استراتيجيات جديدة للتعبئة ترتبط بورشات عمل ومعارض ومؤتمرات وبرامج تدريبية في الداخل والخارج. ولكن سرعان ما بدأت هذه المنظمات بمواجهة صعوبات في جمع التبرعات وتحديات لجذب المتطوعين والإبقاء عليهم، فأصبح عملها استجابياً لا استباقياً، واضطر بعضها إلى التوقف عن العمل. وللمفارقة، انصبّ التمويل الدولي واستراتيجيات المساعدات بأغلبيتها على المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التابعة للطبقة السياسية، مما أدى إلى تعزيز النظام الطائفي الحالي ودعمه بدلاً من تغييره، ما أدى إلى تسريح قطاع الرابطات التي أصبحت منطلقاً لطموحات منصبية ومطامع شخصية.


ارتباط اللبناني المهاجر بوطنه قائم، وفي الصورة لبنانيون يتجمعون في حدائق كينسينغتون في وسط لندن لتكريم ضحايا انفجار بيروت في 5 آب (أغسطس) 2020

استطاع الشباب من خلال المنظمات غير الحكومية البديلة الصامدة المشاركة في الصناعة التنافسية التي فرضت عليها الطبقة السياسية والمتبرعين أجندات تشاركية. وكما هو الحال مع المنظمات غير الحكومية في أماكن أخرى، اعتزل العمل الجماعي الشبابي السياسة، مما أضعف الأمل بالتغيير السياسي والاجتماعي. توقف العديد من المنظمات غير الحكومية، حتى تلك التي كانت تعمل بحسن نية، عن مهامها التي كانت تتمحور حول تمكين المجتمعات التي تعمل معها واضطرت للخضوع لأجندات المتبرعين وشروطهم. من جهة أخرى، استمالت السياسة الطائفية والمصالح الخاصة المنظمات الأخرى. وكما يظهر صلوخ وآخرون، للحكام السياسيين الطائفيين مخزوناً لا ينضب من الاستراتيجيات التي تسمح باستنساخ الطائفية داخل المنظمات غير الحكومية.

تردّدت أصداء الانتفاضات العربية عام 2011 في لبنان من خلال مظاهرات خجولة طالبت بإسقاط النظام الطائفي. في تلك المرحلة، توحّدت أشكال جديدة من العمل الجماعي. شملت التجارب الأولى للشباب المنتفض بعد حرب إسرائيل عام 2006 مساعدة المهجرين اللبنانيين والمشاركة في جهود إعادة الإعمار (مثل صامدون وفريق عمل إعادة الإعمار في الجامعة الأميركية في بيروت). وقد خلفت الحرب في سوريا أثراً كبيراً على البلاد مع تدفق اللاجئين بالمئات ثم بالآلاف ووصول عددهم إلى أكثر من مليون حتى تاريخه. دفعت أزمة اللاجئين الشباب والمنظمات غير الحكومية إلى التحرّك لتقديم الإغاثة والدعم. كما حصلت المنظمات غير الحكومية على التبرعات الدولية التي أعادت تحديد أجنداتها وموضعتها كشريكة شرعية لها.