يرى جمع من الكتّاب العرب أن الدول العربية باتت ممزقة وفي أواخر عهدها، ولا نجاة للمواطن العربي إلا بنهايتين قاتلتين: إمَّا الضياع والهجرة إلى بلدان الاغتراب، أو البقاء في جحيم الأوطان، كما يحدث في سوريا والعراق وغزة وغيرها، مما جعلني استقريء تاريخ شعوب أوروبا المتحضرة وأميركا الحديثة، وكيف بنيت تلك الدول، وما الذي واجهته عبر تاريخها، وتوصلت إلى خلاصة مفادها أنَّ مصير العربي ليس الاستكانة وقبول الواقع المر، ولا الهجرة وما تخلفه من شتات وتدمير للذات العربية، فكلاهما أمرٌ من الآخر، بل الحل هو في صيرورة التاريخ، التي تقول إنَّ المجتمعات المنعتقة من الاستعمار الحديث لا بد لها من أن تمر في مراحل عدة حتى تستقر.

إقرأ أيضاً: كيف أحبط الإعلام الرقمي البروباغاندا الغربية

هذه المراحل هي حتمية تاريخية لا بد منها؛ المرحلة الاولى هي الانعتاق من الاستعمار بأي وسيلة كانت، وهذا ما حدث مع الدول العربية التي أنهت الاحتلال التركي بعد الحرب العالمية الأولى، وخاب أملها عندما اُستعمرت من الدول المنتصرة، وتوزعت بين بريطانيا وفرنسا وايطاليا. المرحلة الثانية هي جلاء المستعمر الحديث، حيث نالت أغلب الدول العربية استقلالها من الدول المستعمرة تباعاً بعد الحرب العالمية الثانية، واستمر ذلك بين العام 1946 (دول بلاد الشام) وعقد الستينيات (دول المغرب العربي) وأوائل السبعينيات (دول الخليج العربي). المرحلة الثالثة هي المشاكل الداخلية والانقلابات والحروب العربية - العربية، وذلك للخلاص من ذيول المستعمر وتركته البغيضة ومن وكلائه في الأنظمة العربية، وهذه اتخذت أشكالاً مختلفة، حتى وصلنا إلى ما سمي بالربيع العربي أو "الدمار العربي"، الذي اجتاح الدول العربية في أغلبها وأسقط معظم أنظمتها، وما زال العرب تحت هذه الموجة. بهذا يكون قد مر على الأمة العربية منذ تأسيس أول دولة حديثة في عشرينيات القرن الماضي إلى عشرينيات القرن الحالي مئة عام.

المرحلة الرابعة التي لم تبدأ بعد، وهي مرحلة تثبيت النظم الحديثة بعد حروب طاحنة ستحدث داخل الدول نفسها، وذلك لإعادة تشكيل البنى الاجتماعية والسياسية وإعادة بناء التكتلات والتحالفات مع الدول المجاورة، لأن اتفاقية سايكس - بيكو عندما قسمت الوطن العربي، لم تراع الجغرافيا والتاريخ المشترك والبنى الاجتماعية، وهذه المرحلة قد تعيد تسمية المسمى، وإعادة ضم وتجريف ما هو قائم.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

هذه المراحل تعتبر إجبارية كي يدخل العرب المرحلة التي دخلت فيها أوروبا وعرفت نظامها الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. فأوروبا اليوم التي نُعجب بها خاضت حروباً طاحنة في ما بينها كثيرة، دينية وعرقية وفكرية، إلى أن تمخضت عن حربين عالميتين أزهقتا أرواح أكثر من ستين مليون إنسان، ثم استقرت الأمور. فهل المواطن العربي يعتقد أنه سيصل إلى ما وصل إليه المجتمع الأوروبي من دون أن يدفع الثمن؟ من المؤكد لا، فلكل شيء ثمن.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

إنَّ ما يشهده العالم العربي اليوم، ما هو إلا "طبطبة" على الأوجاع، ومعالجة حثيثة ليوميات الحُكم العربي، من دون رؤية استراتيجية عميقة لمستقبل العرب. لذا، فالقادم لن يكون أصعب من الحاضر كما لن يكون أسهل، بل سيكون متفقاً مع منطق تطور الأحداث، وحقيقة التاريخ وتطور المجتمعات. إنها ليست نجاة موقتة، بل هي انتظارٌ لمصيرٍ محتوم وفق السياق التاريخي لولادة الدول.