سؤالان يفسران ما يجري في غزة من حرب شاملة هدفها الأساس تدمير حماس والقضاء على بنيتها العسكرية، حيث الهدف أوسع وأشمل، ويتعلق بتصفية القضية عبر اغتيال شعب وتشريده بالكامل من أرضه وتشتيته، وهذا يتوافق مع الفكرة الصهيونية القومية الدينية التى تقوم عليها الحكومة الإسرائيلية الحالية.

السؤالان لماذا قامت دولة إسرائيل، ولم تقم حتى الآن الدولة الفلسطينية، بالرغم من توفر كل مقوماتها من شعب له حقوقه التاريخية وهويته الوطنية، ومن قرارات الشرعية الدولية وأساسها القرار 181 الأممي الذي ينص على قيام دولتين، واحدة يهودية على مساحة تقارب 55 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية، وأخرى عربية فوق 44 بالمئة منها، مع وضع دولي للقدس. ويبقى لهذا القرار أساسه الشرعي ولا يلغى بالتقادم. بالرغم من ذلك، لم تقم هذه الدولة حتى الآن، والسبب الرئيس الاحتلال الإسرائيلي المستمر، وما يصاحبه من استيطان وتهويد لكل الأراضي الفلسطينية بما فيها الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية على حدود 1967، أي ما يعني قبولاً فلسطينياً بدولة على مساحة تقل عن الدولة المخصصة بموجب القرار المذكور، أي 20 بالمئة، وهذا يمثل تنازلاً كبيراً من الجانب الفلسطيني.

بالرغم من ذلك، لم تقبل إسرائيل حتى بهذه الدولة الصغرى، وتعلن صراحة عن عدم السماح بقيام الدولة الفلسطينية تحت ذرائع ومبررات تحكمها القوة والرؤية الصهيونية الدينة القومية لإسرائيل كدولة. وهنا الملاحظة الأولى، وتعود للمؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد عام 1897 برئاسة تيودور هرتزل، والذي حدد هدفه بقيام وطن قومي لليهود في فلسطين. والحقيقة أنَّ المقصود ليس وطناً ولا دولة يهودية بل دولة لليهود، والفارق كبير بين دولة يهودية ودولة اليهود، والمقصود دولة لكل اليهود فقط، وهو ما يعنى تهجير وتفريغ الأرض من سكانها، ولعل هذا أحد أهداف الحرب على غزة الآن بدفع الشعب إلى الهجرة وتصفية القضية الفلسطينية.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

من هذا المنظور، تعتقد القوى الصهيونية اليمينية والدينية أن هذه الدولة لم تكتمل بعد، ولذلك لن يسمح بقيام الدولة الفلسطينية التي تعتبر مناقضة لهذه السردية والمعتقد الصهيوني. والبديل لذلك التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كشعب له حقوقه بل مجرد مجموعة من السكان ذات احتياجات لا حقوق.

الملاحظة الثانية، والتي قد تعتبر نافية للأولى، أنَّ هذه الدولة ما كان يمكن أن تقوم من دون التحالف بين الحركة الاستعمارية والحركة الصهيونية، بدءاً من وعد بلفور ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني وفتح أبوابها للهجرة بمساعدة بريطانية تنفيذاً لوعد بلفور، وصولاً إلى القرار 181، ثم لتتحول هذه الرعاية والتحالف للولايات المتحدة، ونرى هذا، اليوم، في الحرب على غزة بدعمها العسكري الكبير وإرسال بارجاتها الحربية واستخدام الفيتو في مجلس الأمن وتبني وجهة النظر الإسرائيلية بحقها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب الفلسطيني.

إقرأ أيضاً: كيف أحبط الإعلام الرقمي البروباغاندا الغربية

الملاحظة الثالثة وتتعلق بالموقف الأميركي والأوروبي من قيام الدولة الفلسطينية. فبالرغم من أنَّ هناك 139 دولة أعضاء في الأمم المتحدة اعترفت بفلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة، لكنَّ ما يحول دون قيام هذه الدولة هو الموقف الأميركي والأوروبي الذي لا يعترف بها، ويمنح إسرائيل غطاءً سياسياً لتستكمل عمليات الاستيطان والتهويد للأرض الفلسطينية المخصصة للدولة الفلسطينية، وفرض الحلول البديلة لعدم قيام الدولة.

الملاحظة الرابعة، والتي تؤكد على مصداقية فرضية عدم قيام الدولة الفلسطينية، أنه في عام 1917 كان عدد اليهود أربعة بالمئة من إجمالي سكان فلسطين آنذاك، وفي عام 1937، ارتفع العدد بفعل الهجرة إلى 32 بالمئة، مقابل 68 بالمئة من العرب الفلسطينيين، ولعل هذا هو السبب في عدم قبول قرار التقسيم وطرح فكرة الدولة الواحدة منذ ذلك الوقت. وهذا يقودنا إلى الملاحظة الخامسة، وهي رفض أي حديث عن فكرة الدولة الواحدة لكل مواطنيها عرباً ويهوداً، ورفضاً لفكرة حل الدولتين.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

في كتاب للدكتور علي الدين هلال بعنوان "تكوين إسرائيل: دراسة في أصول المجتمع الصهيوني"، وفي غيره من الدراسات، نجد أنَّ مقولة أرض بلا لشعب لشعب بلا أرض احتاجت إلى ترجمة بالهجرة، كما النكبة الأولى ومجازر دير ياسين، وكما نرى اليوم من محاولة تكرار هذه النكبة في غزة وتهجير أكثر من مليوني نسمة وبنفس منهاج المجازر التي ترتكب، والهدف الرئيس هو السيطرة على الأرض وتفريغها من سكانها بهدف قيام دولة لليهود فقط. وفي هذا السياق، صدر قانون القومية اليهودية، وتحول الدين، وهو الدين الوحيد، إلى قومية وأيدولوجية سياسية. فاليهودية هي الوجه الديني للصهيونية، والصهيونية هي الوجه السياسي لليهودية، وهذا ما تمثله الحكومة الإسرائيلية اليوم بحزب بن غفير وسموتريتش، أي الصهيونية الدينية والصهيونية القومية.

في هذا السياق التاريخي والسياسي والأيدولوجي، تكمن الإجابة على السؤالين.