تمر الذكرى المئوية لرحيل فلاديمير لينين (22 نيسان - أبريل 1870 - 21 كانون الثاني - يناير 1924) عن العالم، وما زالت الإنسانية مدينة بالمكتسبات التي حققتها أعظم ثورة في تاريخ البشرية، قادها لينين، وأثبت بشكل عملي أن عالماً أفضل ممكن، وأن نضال الإنسان المتواصل من أجل السلام والأمان والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية هو مسعى واقعي ويمكن تحقيقه.
ما نشهده اليوم من صراع بين الأقطاب الإمبريالية العالمية والدول التابعة لها، يتم تحت عناوين كاذبة وخادعة، هي عناوين "الديمقراطية" التي رفعها الغرب من أجل هيمنته على العالم، وأثبتت حرب إسرائيل الوحشية على غزة كم أن عنوان الديمقراطية هو تعبير صارخ عن النفاق السياسي، والعنوان الآخر هو القانون الدولي و"عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة" الذي تتبجح به روسيا والصين، وتختبئ تحت مظلتها دول استبدادية بامتياز مثل إيران وكوريا الشمالية، التي إما ان تضرب القانون الدولي بعرض الحائط مثل ما يحدث اليوم في أوكرانيا، أو تتولى الاستثمار العسكري والسياسي في الدول الفاشلة متجاوزة "السيادة الوطنية" و"القانون الدولي"، وهو ما يجيده عن جدارة نظام ملالي طهران في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
إنَّ هذا الصراع يعود بنا إلى لينين بٌعَيدَ إسقاط النظام القيصري والحكومة المؤقتة في روسيا، وفتح خزائنها، والكشف عن الاتفاقيات والوثائق الموقعة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية للاستحواذ على العالم وتقسيمه فيما بينها، وقد أحدثت ضجة كبرى في العالم، وبينت الأطماع الامبريالية وأسباب الحرب العالمية الأولى.
ومن الجدير بالذكر أن رفع شعار "عالم متعدد الأقطاب أكثر عدالة"، هو من أكثر العبارات المظللة، فالعدالة هنا لمن؟ هل للطبقة العاملة وعموم محرومي المجتمع الذين وقف لينين باسمهم ليمزق جميع وثائق واتفاقيات تقاسم العالم بين الأقطاب الامبريالية العالمية آنذاك، حيث "كان متعدد الأقطاب"؟ أم أكثر عدالة للطبقات البرجوازية القومية التي تكافح من أجل احتلال موطئ قدم وإيجاد مكانة لها في مزاحمتها الأقطاب الامبريالية العالمية الأخرى؟
من هنا تنبع كراهية فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي الحالي، لإرث لينين، ومحاولاته استئصاله من التاريخ الروسي، وقد عبر عن ذلك بمناسبات مختلفة أثناء حربه على أوكرانيا وما زال، لكنها مغلفة بلغة دبلوماسية، حيث وجه نقده لتنازل لينين عن مليون كيلومتر مربع من أراضي الإمبراطورية الروسية لألمانيا والدول الأوروبية الأخرى من أجل خروج روسيا من الحرب العالمية الأولى وتحقيق السلام وحقن دماء الملايين ممن زجوا كذباً وافتراءً في حرب لصوصية كما وصف لينين الحرب العالمية، إذ قال إنها حرب بين اللصوص. تلك الكراهية نابعة عن تناقض أفقين، الأفق الاشتراكي - الإنساني الذي مثله لينين، والأفق الامبريالي التوسيعي لبوتين، وأثبت لينين من الناحية العملية أنَّ كل ادعاءات الدفاع عن الوطن والقومية الروسية هي محض هراء، وأنها شعارات وايديولوجية من أجل الاستحواذ على أراضي الغير، بغير وجه حق، واستثمار إنسانية من يعيشون عليها لمصلحة حفنة من الطبقة البرجوازية التي تسخر مواطنيها عبر خداعهم والكذب عليهم وزجهم في معاركها وحروبها التي أشعلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما نشهده اليوم من حروب، وآخرها حرب غزة، هو معطيات مادية تثبت صحة ما ذهب إليه لينين.
إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟
إنَّ الصراع بين الأقطاب الامبريالية والدول التابعة لها هو ظاهرة ملازمة للنظام الرأسمالي، إلا أن تغليف الصراع لتبريره وتضليل الجماهير لتعبئتها وزجها في ذلك الصراع يختلف من عصر إلى آخر. فإذا كانت مقولات "الوطن" و"الدفاع عن الوطن" هي عناوين تلك المرحلة، فاليوم تحمل عناوين أخرى. فعلى سبيل المثال وفي منطقتنا تحديداً، لا تأتي عناوين "القانون الدولي" و"نشر الديمقراطية" أكلها، فنجدها تتغير بقدرة قادر إلى يافطات أخرى، فمثلاً إسرائيل ترفع شعار "الحرب على الإرهاب" لتبرير ظلمها القومي السافر للفلسطينيين، وتشاطرها استخدامه الولايات المتحدة الأميركية وعموم الغرب، الذي استخدم اليافطة أعلاه أيضاً بعد انتهاء الحرب الباردة لفرض هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية على العالم، في حين أنَّ الدول التابعة للقطب الامبريالي الآخر، ونقصد روسيا والصين، مثل إيران، رفعت شعار "المقاومة والممانعة" بعد أن بات شعار الثورة الإسلامية لا يستهوي أحداً، ولا يمكن من خلاله خداع وتضليل الجماهير لإخفاء التمدد القومي الفارسي في المنطقة.
وإذا ما عدنا إلى الموضوع ذاته، فإنَّ ما يجمع بين الامبريالية الغربية والإمبريالية الروسية والدول التابعة لها أو التي تدور في فلكها هو مناصبة لينين العداء وكره إرثه السياسي والاجتماعي، وهو ما يفسر إجماع 21 دولة حينها على إسقاط سلطة البلاشفة بعد ثورة أكتوبر 1917، بدءاً من أنصار القيصر "والمدافعين عن الوطن الروسي - الإقطاع، الليبراليين، الاشتراكيين الشوفينيين" ومروراً بألمانيا التي حاربت روسيا القيصرية أثناء الحرب، وانتهاءً بكل أمراء وملوك وجمهوريات أوروبا. إنَّ ماهية تلك الكراهية تكمن في أنَّ لينين فضح كل ادعاءات الأقطاب الامبريالية وشعاراتها القومية وأطماعها وعدائها لشعوب العالم، وكذلك عداءها السافر للطبقة العاملة التي تجاسرت بقيادة لينين على إزاحة البرجوازية من السلطة في روسيا لتكون نبراساً لكل العمال في أوروبا، ورفع راية السلام والحرية والمساواة.
تمثال للينين في سانت بطرسبورغ
لقد رفع البلاشفة، بقيادة لينين، شعار (الأرض - الخبز - السلام) الذي تحول كالنار في هشيم يلف ليس العمال وحدهم في روسيا فحسب بل الفلاحين، وهم الطبقة الأكبر اجتماعياً حينها في روسيا، والجنود، وجميع الأقسام الاجتماعية في المجتمع الروسي الذي دفعه نظام القيصر إلى حربه الامبريالية التوسعية من أجل ملء خزائنه على حساب حرمان المجتمع الروسي؛ ويحرس آلهة الحرمان دولاب القمع والاستبداد القيصري.
إقرأ أيضاً: استراتيجية نظام الولي الفقيه بين أزمة غزة والأزمات الداخلية
ويجدر بنا تفكيك الشعار أعلاه ومقارنته بما يحدث اليوم، ونقصد صراع الأقطاب الامبريالية أعلاه على النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي أشرنا إليه. فمقولة "الأرض" في الشعار الذي رفعه لينين أو البلاشفة، لا تتجسد فقط في تأميم الأراضي الاقطاعية وتوزيعها على الفلاحين فحسب، بل أيضاً في المرسوم الذي أطلقه؛ وهو أنَّ من حق شعوب الامبراطورية الروسية أن تستقل أو تنفصل عن الإمبراطورية الروسية. أي أنَّ مقولة الاستحواذ على الأراضي، سواء في الحدود الجغرافية التي نعيش عليها أو التي تستولي عليها طبقتنا البرجوازية خارج تلك الحدود، وتزج الجماهير العمالية والكادحة في حروبها التوسعية سواء في الدفاع من أجل الاحتفاظ بتلك الأراضي عبر تحضير الأرواح من التاريخ، أو شعارات المقاومة والممانعة، أو الحرب على الإرهاب، أو باسم حماية القانون الدولي كما نشهد اليوم في الظلم القومي السافر الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين من تهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم من قبل المستوطنين تحت عنوان أرض اليهود التاريخية، أو إعادة دونباس والقرم إلى روسيا، أو المطامع البولندية في الاراضي الأوكرانية، وهلم جراً. والوجه الآخر للأرض، هو من خلال إشاعة الأوهام حول حقانية الملكية الخاصة لها سواء من قبل الاقطاع الذي كان يستحوذ على الأراضي ويفرض على المزارعين والفلاحين الضرائب العينية أو يقوم بجلدهم أو طردهم منها، أو من قبل الشركات الخاصة، كما على سبيل المثال وليس الحصر شركة الفواكه المتحدة التي تستولي على أراضي شاسعة في دول أميركا اللاتينية، وتدخلت في تدبير انقلابات عسكرية فيها في القرن الماضي لتنصيب حكام وأنظمة تبيح استثماراتها والاستثمار المطلق للإنسان. بمعنى آخر نقول إنَّ الاستيلاء على الأراضي بالمعنى المطلق لا تجد لها أي أثر في قاموس لينين ولا البلاشفة. وهذا ما يعذب بوتين ويقض مضاجعه ويحاول استعادة ما منحه لينين للشعوب والفلاحين من أجل تحريرهم من العبودية عبر نفخ الروح بالقومية الروسية والتقاليد الرجعية الروسية والدين الأرثودوكسي الروسي.
أمَّا القسم الآخر من الشعار وهو "الخبز، والسلام"، فأرقام الأمم المتحدة الحالية تخبرنا أن أكثر من مليار ومئة مليون إنسان في العالم يعيشون في خط الفقر، في حين تخصص دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية ثلاثة أرباع تريليون دولار من موازنتها السنوية للإنفاق في مجال التسلح والدفاع، وتخصص دول حلف الناتو اثنين بالمئة من ناتجها القومي للتسلح الذي يضم الدول الصناعية الست، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية وكندا وبريطانيا، إضافة إلى 25 دولة أوربية أخرى.
إنَّ ما يدور اليوم في العالم، هو ذات ما فضحه لينين في تلك الفترة، فبدلاً من بذخ المليارات من الدولارات على العسكرتارية والحروب الامبريالية التوسعية، يمكن إنفاقها على تعميم السلام والصحة والتعليم والبيئة وإنهاء الفقر.
إقرأ أيضاً: الحرب تمتد إلى لبنان واليمن.. و"الفتن" تأتي من الشرق!
إنَّ مكتسبات ثورة أكتوبر من حق التعليم والصحة المجانية والضمان الاجتماعي والحصول على سكن ملائم وغيره اجتاحت أوروبا، وكان خوف الطبقات الحاكمة في الغرب من الطبقة العاملة في بلدانها والاحتذاء بما ذهب إليه رفاقهم العمال في روسيا القيصرية، هو ما دفعها إلى تقديم التنازلات من أرباحها للطبقة العاملة ومحرومي المجتمع مثل الضمان الاجتماعي والضمان الصحي وتوسيع رقعة التعليم. وهذا يقودنا إلى تصفح بعض أوراق التاريخ وتأثير ثورة أكتوبر، ونقرأ بعد الكساد الكبير، أو كما يسميه بعض الاقتصاديين الانكماش الكبير في عام 1929 الذي اجتاح البلدان الرأسمالية، ذهبت إدارة فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة الأميركية بين أعوام 1933 و1938 إلى حث الكونغرس الأميركي على إقرار جملة من القوانين، هي قانون الضمان الاجتماعي وقانون معايير العمل العادل الذي وضع حداً أقصى لساعات العمل وحداً أدنى للأجور، وقانون تعزيز عمل النقابات العمالية وقانون توفير 500 مليون دولار - بقيمة تلك الفترة - لتخصيص مطاعم للفقراء ولأموال الإعانات، وبرامج جديدة لمساعدة المزارعين المستأجرين والعمال المهاجرين و إنشاء هيئة إسكان بالولايات المتحدة.
ما نريد أن نقوله إن الخوف من شخص مثل لينين ليس لأنه أرسى دولة "استبدادية" شيوعية كما روج له الإعلام البرجوازي العالمي في الوقت الذي فرخ نفس النظام البرجوازي عشرات المستبدين والفاشيين مثل هتلر وموسوليني وبينو شيت وسوهارتو والخميني وصدام حسين وبن لادن والزرقاوي ونتنياهو وبوش الأب والابن، بل لأنه تجاسر طبقياً وانتزع السلطة من الطبقة البرجوازية وأرسى عالماً يسود فيه السلام، ويمكن فيه تحقيق المساواة بين البشر، ويمنع فيه استثمار الإنسان. لقد عبر عن ذلك القائد الشيوعي الراحل منصور حكمت، عندما حطم تمثال لينين في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث قال إنهم فعلوا ذلك لأنه كان يمثل رمز الجسارة الطبقية.
إقرأ أيضاً: طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟
إنَّ الشغل الشاغل لمراكز الدراسات البرجوازية في العالم والمجمعات الصناعية للأسلحة ولوي عنق التطور التكنولوجي هو من أجل الحفاظ على عالم منقسم طبقياً، عبر "تحميق" البشر بالخرافات القومية والدينية والتفوق العرقي وإشعال الحروب، وهكذا من ضمن أعمال تلك المراكز أن تمحو من الذاكرة التاريخية ما أقدم عليه لينين، أو تشويه منجزاته كأضعف الإيمان. فلا قائم يقوم للبرجوازية وسلطتها الطبقية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والهيمنة الفكرية دون الحفاظ على عالم اللامساواة، عالم ينقسم إلى طبقتين، عالم يقبحه الاتجار بالجسد والأعضاء البشرية والمخدرات والتمييز الجنسي والعرقي والقومي والاثني، عالم فيه أقلية طفيلية تعيش على حساب الأغلبية الساحقة من الجماهير العمالية والكادحة، عالم يموت فيه مع كل شهيق وزفير طفل في العالم، عالم تموت فيه أم في كل ساعة في غزة حسب تقديرات الأمم المتحدة، وبدون هذا العالم، فرأس المال ليس أمامه إلا الانتحار، ومعه ستنتحر البرجوازية. وهذا ما يؤرق دائماً الطبقة البرجوازية، وتقاتل بضراوة وشراسة كما أشرنا عبر أدواتها من أجل الحفاظ على عالمها، وظهر لينين ليحطم ذلك العالم ويبني مكانه عالماً جديداً يصوره المغني البريطاني جون لينون في أغنيته الشهيرة تخيل (Imagine)، نورد منها مقاطع: تخيل لا وجود للجنة، ولا جحيم تحتنا، تخيل ليست هناك دول وبلدان، لا شيء يستحق من أجله القتال أو التضحية، كذلك لا وجود للدين، تخيل كل الناس يعيشون الحياة في السلام وهدوء، تخيل ليست هناك ممتلكات، لا حاجة لجشع أو لجوع، بل الأخوة بين البشر، تخيل كل الناس تشارك كل العالم.
التعليقات