أمام واقع غريب ترزح فيه أغلب دول العالم النامي في خندق تراجع تنموي ملحوظ، تحت ظل عالم يتسم بتناقضاته الصارخة، وانفصام لا مثيل له بين الأقوال والأفعال، في عوالم السياسة والمال والأعمال. عالم يأسف الضمير الحي على مجاراة الطريق المنحرف، الذي يريد أن يؤسس لعبارة أطلق عليها ظلماً وعدواناً متطلبات المرحلة والسهر على حماية مصالح بلدان الدول الفقيرة الضعيفة.

فكيف يعقل للعاقل، أن يتقبل الخطابات المنادية بالصدق، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والشفافية، في دول تصنفها جميع التقارير أنها غارقة في الفساد بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهكذا دواليك. فساد يحوله أعداء نكران الذات إلى قمع بهدف الحفاظ على مناصبهم إلى ما لا نهاية، في مقابل الاستمرار في استهلال الخطابات الجميلة، التي تسعد من يسمعها، لما تحمله من وهج مفعم بحماسة موسيقى الأمل، التي تؤثر على العقول البسيطة الساذجة والبريئة! مراوغات لها من الوهج الإحساسي ما يوحي بالعدالة والحق، والإخلاص لثوابت شعوب وجدت على أراض مليئة بالخيرات، سواء في أفريقيا أو آسيا أو بعض دول أميركا الوسطى والجنوبية، خيرات كلها طموح وأمل منشود في عقول وجدان شعوب تلك الأقطار المترامية الأطراف.

أن أنصار التقليد الأعمى، يقلدون كل شيء، بدءاً بالثقافة اللغوية، مروراً بالبرتوكولات المظهرية، لكن في المقابل يرفضون ويتغاضون عن المهم، وخلاصته نكران الذات، وتحمل المسؤولية، والسبق للاستقالة من المسؤولية في حالة وقوع الأخطاء الفادحة، أو الهفوات الكارثية، عوض انتظار الإقالة أو الثورات أو الانقلابات، أو الدفع ببلدانهم إلى الاصطفافات العرقية، والقبلية والدينية، وغير ذلك كثير. فلا يعقل لمن يدعي الثقافة وحماية مصالح شعبه، ويسهر على حماية الحقوق، والدعوة إلى حرية الرأي والتعبير، أن يجنح للاختباء من رأي عام ينادي بالترفع عن الذاتية، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي، والتناوب وفق مصلحة شعوب لا تزال ترزح تحت أنين التأخر في كل شيء، والحياة الحزبية الاقصائية في أغلب الأحيان، أو سياسة الأحزاب الوحيدة الديكتاتورية، أو الحكومات المظهرية التي تسيرها القوة العسكرية، والتي تحولت للأسف إلى ضياع محاطة بسياج شائك يمنع الترقي، أو الولوج إليها دون ضمانات متعلقة أساساً بالولاءات، والصفقات، وهندسة التحكمات، الموسومة بكثرة العراقيل في كل شيء، مع كثرة الولائم والحفلات، في مقابل تهميش المواهب والمهارات، والزج المبالغ فيه بأصحاب أوراق الشهادات الأكاديمية، كمعيار وحيد لتحمل مسؤولة ما، عوض السماع للأفكار الجديدة، والتي قد تكون معبرة، ولو كانت تأتي من شخص لم يلج المدارس الرسمية في حياته قط. إذ، هكذا ضاعت على بلدان العالم النامي فرص ذهبية، عنوانها الانعتاق من التبعية البنيوية والهيكلية، المحاصرة بضغوطات لا حصر لها، ضغوطات عنوانها عدم فقدان المناصب ليس إلا، أو محاولة الضغط في اتجاه ادخال البلدان في ردهات عدم الاستقرار المؤقت والمتحكم فيه وبه، والذي أصبحت تديره دول تسعى للإبقاء على الهيمنة الأبدية، في إطار ترسيخ قيم التابع والمتبوع إلى ما لا نهاية.

ولعل البلدان التي تقع في محيط مليء بمختلف التحديات، حتماً ستكون مستهدفة من الأصدقاء قبل الأعداء، بيد أن هذا الاستهداف قد يولد نتائج أقل حدة! لو قام الضمير بصحوة من تلقاء نفسه، وابتعد عن تقديس الكراسي، وتمعن في النظر إلى الديمقراطيات العريقة، ومدى تأثير الرأي العام على مسار الحياة السياسية للكثير من صناع القرار، دون التورط كما يقع في البلدان التي لم تسعفها التسميات المتنوعة من عالم متخلف إلى عالم ثالث، ثم الدول السائرة في طريق النمو، إلى أن استقرت تسمية الدول النامية على أقطار لا زالت حائرة في فك شفرة التنمية! فالفضائح وخرق القوانين، وإعطاء صورة سيئة عن ثقافات النماذج التنموية، بالرغم من المجهودات الكبيرة التي تبذلها الكثير من دول العالم الثالث، تبقى السمة التى تطبع تمثلات شعوبها، فترفع الراية البيضاء للتخلف بشكل عام، وتغرس عقدة التفوق الغربي أو الأجنبي، وهو ما يجعلها في دفة قطار يقوده من يحسن اللعب بشطرنج ثقافات متعددة، وهذا موضوع آخر سنسهب فيه بمقالات في المستقبل القريب.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

كما أنَّ الجانب المرتبط بالحقوق، خصوصاً ذات الصلة بحقوق الإنسان، يبدو أنه قد بدأ ينحرف عن مساره الطبيعي، وتحول وسيلة للضغط ليس إلا! بهدف الحصول على مناصب نفعية معينة، أو مناصب قيادية بارزة، بل وصل الأمر عند البعض لدرجة الخيانة، أو استخدامه بهدف الحصول على منافع أو تنازلات ذات مرامي وأهدافاً خفية أو معلنة، يعلمها صناع قرار تلك الدول المغلوبة على أمرها جيداً، فها هي المنظمات التي تدعي الحقوق تدافع عن القتلة والمغتصبين، باسم حقوق الإنسان، بل تشوه سمعة البلدان الضعيفة من خلال الطعن في مصداقية ثقافة شعوبها، ناهيك عن العداء العرقي أو الأديولوجي أو الديني، والذي تحول لحروب أهلية، حروب أضحت مساهمة في التضحية بمقدرات الشعوب، خصوصاً في بعض الدول الإفريقة، وبعض دول الشرق الأوسط، الصراع الذي توظفه أو يوظفه البعض، ويتم تكييفه مع حقوق الإنسان الكونية، بهدف الوصول لمبتغى الإقصاء، وتهديد وحدة البلدان، وتلاحم الشعوب المتنوعة، بعيداً عن مفاهيم التنافر، والصراع الذي يساهم فيه من يصطاد في الماء العكر، بانحرافه وتشتيت جهود الجميع بهدف أكل الغلة بدون إعطاء مقابل، للخروج من دائرة الفقر المتعدد الأبعاد.

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟

كما أنَّ السياسات التي لا تخجل حين تدافع عن أشياء جوهرية، في المنظومات السياسية الاقتصادية وحتي الإنسانية، دون بلورة أفكار مستقلة قادرة على تحقيق الإقلاع في اتجاه الالتحاق بمصاف البلدان الصاعدة، تبقى عموماً قاصرة في كل شيء، فهذا الطموح للأسف تعرقله أفكار لا تؤمن بالتناوب، بل مقدسة للمناصب ومتعجرفة لأنانية الأنا! ولا أحد سوى أنا، مع التمادي في الاستهتار عند تحمل المسؤولية، والتحايل عند الاعتراف بالأخطاء. ولعل اعتبار منهج الوعي من المناهج التربوية والسياسية لأمر محمود، في عالم اسمه نكران الذات. فالبلدان النامية مليئة لحسن الحظ بالكفاءات، ومفعمة بشعوب تسعى لكي تصل إلى الحرية والعيش الكريم، دون المغامرة وقطع الحدود، أو وركوب الأمواج، أو اللجوء إلى العنف بمختلف دوافعه الاجرامية، بعيداً عن تفاهة الانتخابات الصورية، والتي انحرفت عن أهدافها التدبيرية التنموية في أغلب الأمور. انتخابات تحولت في بعض البلدان للأسف، خصوصاً الفقيرة جداً، في اتجاه بناء تحالفات مذهبية أو عرقية قبلية، واضحة وضوح الشمس في فصل الصيف، عنوانها وجوهرها نفسي ثم نفسي، ولا تهمني إلا نفسي وأبنائي وأسرتي وعشيرتي المطيعة! وكأنها خرقت أزمنة، ودخلت مباشرة في زمن يشبه يوم القيامة، بالرغم من أنَّ قيامة البشر حتمية في دنيا تافهة، قصيرة غير عادلة بشهادة التاريخ والشرائع السماوية والديانات الوضعية.

إقرأ أيضاً: حرب السيوف الحديدية واليوم الذي سيلي

المجد للشعوب الواعية الإنسانية والمسؤولة، في عالم عليه أن تتجه أفكاره في مسار اسمه احتضان الجميع، والهداية لمن ينظر ويتمعن في حجمه الحقيقي، حجمه المكشوف أمام مرآة، مرآة أظن أنها تعكس حقيقة الجميع.

فالعالم النامي، يحتاج لوعي جماعي عنوانه الثقة بالقدرات العامة، واحترام حقوق الجميع، وفق مقاربة تطابق الحقوق مع الواجبات، بغية الوصول لنضج سياسي عنوانة المواطنة الكاملة للجميع، لا الطائفية والعرقية والمذهبية، والذي يؤكد التاريخ، أن النتائج المترتبة عنها، تقتصر على زرع الأحقاد والكراهية، بين المجموعات البشرية المتنوعة، والمفروض عليها القبول بهذا التنوع، ما دام هذا التنوع والاختلاف، يندرج في إطار سنة الكون العظيمة، المحكمة، الثابتة، في عالم يحتاج لتنوع وثقافة الجميع.