ليس سراً، ولا تخفيه الدولة العميقة المتحكمة بشركات الأسلحة الأميركية ولا بعض الإدارات في البيت الأبيض، دعمها لهذه الشركات كقطاع مثل غيره من قطاعات الاقتصاد الأميركي. أما جدلية خلق الحروب، فهي فكرة متناقضة ذات وجهين، وتحتاج إلى المنطق عند البحث فيها. لكن عرض هذه الفكرة من قبل الأنظمة الفاشلة في منطقتنا كمفهوم للطعن في الاستراتيجية الأميركية على خلفية الصراع الإيديولوجي، فخداع لشعوب المنطقة بضحالة سياسية. فكما يعلم الجميع، يعود ظهور هذه الفكرة إلى مرحلة الحرب الباردة، ويتم إحياؤها والترويج لها كلما دعت ضرورات مواجهة الأنظمة لشعوبها أو المطالبة بحقوقها، كالشعب الكوردي، مثلما يجري الآن وحيث تصعيد الصراع بين القوى الكوردية وبين التحالف الإيراني التركي، الأنظمة المستفيدة من الصراع الأميركي الروسي الصيني على منطقة الشرق الأوسط.

صناعة وتجارة السلاح تعد أحد أهم القطاعات الاقتصادية في العديد من الدول، وتحتل في أميركا الصدارة، بواقع 37 بالمئة من حصة العالم، تأتي بعدها روسيا بنسبة 20 بالمئة، وهي حقيقة يعلمها أي باحث اقتصادي - سياسي، لذلك فلوبي ضخم في الكونغرس وكلية الحزب الجمهوري يدعمان هذا القطاع الصناعي الهائل والمرعب، ويساعدان في إيجاد الأساليب المناسبة لإنجاحه، ليس فقط لأن معظم قادة الحزب هم أقطاب هذا القطاع ويملكون حصصاً فيه أو يستفيدون منه إما مادياً أو في الحملات الانتخابية، بل لأنه جزءاً رئيسياً في الدخل الوطني، بنسبة تفوق ثلاثة بالمئة، مثله مثل قطاع الإلكترونيات، وصناعة السيارات، وشركات النفط والبنوك والعقارات وغيرها، وهو من أهم ركائز الإمبراطورية الأميركية، وبالتالي نقض أميركا من خلال هذا المفهوم سذاجة، وعرضه كتهمة جهالة، وطرحه للحوار كنقد للإمبراطورية الأميركية ضحالة سياسية، تعكس عدم معرفة الفرد بالبنية الاستراتيجية لأميركا كإمبراطورية، وعلى أثرها يتم الخلط بينها كقوة عظمى عسكرية - اقتصادية ووجودها في العالم كحضارة.

هذا المفهوم لا يتحدث فيه الإعلام، لكن عندما تحين الصفقات التجارية، تدرس من على منصة الحوارات السياسية لاعتبارات عدة، فيتم إنكارها أحياناً عند إدارة الديمقراطيين للبيت الأبيض، لاعتبارات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية بل وأحياناً تحت مظلة حقوق الإنسان، وهنا يظهر دور المنظمات الحضارية التي تقف في وجه الهيمنة الإمبراطورية، لذلك فنقد أميركا على هذه المنهجية في عمقه نقد لجميع الدول المصدرة للسلاح، فليس هناك سلاح يقتل وأخر يخلق الفرح، فكل قطعة سلاح يتم تصديرها، ومن أي دولة كانت، هي أداة للتدمير، إن كان للهجوم أو الدفاع.

قطاع الصناعات العسكرية في أميركا، له باع طويل في الأروقة السياسية، واللوبي الخاص به أقوى من لوبي قطاع صناعة النفط والأدوية، على خلفية الهيمنة قبل الدخل المادي الهائل، لذا يجب أن يكون في حالة تجديد وتطوير متواصل، ونجاحه مثل نجاح جميع شركات الأسلحة في العالم يعتمد على:

1 - إما تحديث أسلحة الدول المعتمدة على السلاح الأميركي كدول الخليج وتركيا على سبيل المثال، حيث نسبة 75 بالمئة تقريباً من أسلحة تركيا كدولة في الناتو يأتي من أميركا أو من دول الناتو، وبالمقابل هناك دول تعتمد على السلاح الروسي بشكل شبه مطلق، وهنا نتحدث ليس فقط عن منطقة الشرق الأوسط، بل عن معظم دول العالم.

2 - أو بخلق الحروب، وبها يتم شراؤه في حالتي الهجوم والدفاع. ويروج على أن الشراء في حالة الدفاع يتم من روسيا أو الصين أو غيرهما من الدول، لكن الكل يبحث عن الأسواق المروجة لتصريف السلاح في الحالتين، ولا يخفى أن جميع الدول المصدرة للسلاح تنتظر الحروب لتصرف بضاعتها، حتى ولو كانت تحت منطق الدفاع عن الذات، وعلى الأرجح أن تركيا أيقظت الصراع بين دولتي أذربيجان وأرمينيا للترويج لطائراتها من طراز بيرقدار وبيعها، ولا يستبعد أن إيران تحصل على كميات هائلة من العملة الصعبة التي كانت تصل عن طريق المساعدات الدولية إلى حركة حماس وما ينتجه حزب الله من تجارة المخدرات ومن غيرهما من أدواتها الأخرى مقابل الصواريخ التي ترسلها لهم. كما أنَّ شعوب الدول العديدة التي تعتمد على السلاح الروسي حالياً، وفي السابق الاتحاد السوفيتي، يتم إقناعها بهذه المنهجية، أي شراء السلاح من أجل الدفاع عن الذات. هذا الخلاف الفكري يعكس جدلية ساذجة، فحضور السلاح الفردي، الكلاشينكوف السوفيتي أو إم 16 الأميركية وانتشارهما في العالم، مبني على الصراع الإيديولوجي، وكل الإيديولوجيات والأديان والمذاهب قتلت وأجرمت وتقتل تحت مفاهيم مختلفة، مهما غطيت بألبسة مزركشة دفاعية أو هجومية.

3 - تضخيم قوة بعض الدول، خصوصاً التي تحكمها أنظمة دكتاتورية ذات طموحات للسيطرة على الجوار، كما كان يقال عن جيش صدام حسين، واليوم عن قوة إيران والبعد المذهبي، وعن تركيا؛ الحالمة بإعادة تاريخ الدولة الملية العثمانية السنية، وفي الواقع ليست تلك الدول بالسويات التي يتم الترويج لها في الإعلام، وقد سقطت فيها روسيا قبل الهجوم على أوكرانيا. وكل ذلك لترهيب الدول المجاورة لتعمل على خلق قوة دفاعية، ودول الخليج خير مثال، وحيث بعبع صدام وإيران وتركيا اليوم.

في الحالتين، تجارة السلاح لا تقتصر على أميركا فقط، بل جميع الدول المصنعة للسلاح والمتاجرة به تستفيد، وتدرج ضمن قائمة التدمير والترويج للحروب، بغض النظر عن البنية الأيديولوجية التي تستند إليها، فهي تظل منابع لتصدير أدوات التدمير.

علينا أن نتذكر أنه لم تظهر إمبراطورية في التاريخ على مبدأ السلام، ودروبها جميعاً من دون استثناء مليئة بالدماء، ونحن نتحدث عن تاريخ البشرية الغارقة في المآسي منذ البدء وحتى اللحظة.

يتبع...