في تسلسل عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو للحاجات والسلع التي يحتاجها الإنسان في المسار اليومي لحياته، وضع المواد الغذائية في المقدمة، وقد سبق القرآن الكريم ماسلو منذ ما يزيد على 14 قرناً في وضع تسلسل لاحتياجات الإنسان حسب أهميتها، وذلك في سورة قريش، إذ قال سبحانه وتعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)}.

فقد وضع الله الغذاء بمختلف أصنافه وألوانه في مقدمة احتياجات الإنسان؛ لأنها تحمل إكسير الحياة الذي يقيه الموت سغباً، وأتبعها بالأمان على اعتباره الحاجة الإنسانية والاجتماعية الملحة في الحياة بعد الطعام، فالإنسان يبحث طوال حياته عما يقيه المؤثرات السلبية في ليله ونهاره ومنها الوطن، لأنه يشكل أهم عامل استقرار في حياة المرء، ففيه يولد وفيه يترعرع وفيه يحصل على السكينة والطمأنينة بين جدران بيته الذي يحتضنه الوطن، فالإنسان يخاف على حياته من كل شيء من حوله، ويجد الراحة والاستقرار وهدوء البال وانتعاش النفس في بيته تحت ظل خيمة وطنه الوارف.

ويبدو أنَّ إسرائيل، بعد الدراسة والتمحيص والتحليل، اهتدت واعتمدت ثنائية الغذاء والأمن في إعلان حرب الحاجات الإنسانية جنباً إلى جنب الحرب العسكرية إمعاناً منها في الإنتقام من أهل غزة.

وعليه، فإنَّ مأساة أهل غزة فاقت كل مأساة في تاريخ الإنسانية بمختلف عصوره، فقد تخلى عنهم أمام إسرائيل الأخ قبل الصديق، الأخ الذي هو قادر كل الإقتدار على أن يتدخل للذب عنهم والدفاع من أجلهم بكفاءة، لأنه يملك وسائل كثيرة للدفاع عنهم، وبذلك أتاح لإسرائيل أن تنفِّذ ما يحلو لها من مخططات بحق أهل غزة؛ من مخططات انتقامية شديدة البأس، بعيدة كل البعد عن رعاية المصالح وتعزيز النفوذ، التي يستهدف بها الخصم خصمه من أجل الحصول عليها منه.

فإسرائيل تستهدف أهل غزة في كل شيء، وفي المقدمة الغذاء، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف توجهت نحو وكالة الأونروا لأنها الجهة التي تتولى تقديم الغذاء لقطاع غزة عبر موظفي فرعها العاملين فيه، ووجهت أصابع الاتهام إلى 12 منهم بأنهم كانوا ضالعين في هجوم طوفان الأقصى الذي نفذته حماس ضد مستوطنات غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي.

وعلى الفور، سارعت 18 دولة من الدول المانحة، ومنها أميركا، إلى قطع تمويلها المالي لهذه الوكالة، وما كان من الإدارة الأميركية أيضاً إلاّ أن توجهت عبر الكونغرس إلى اتخاذ قرار يتناغم مع المزاعم الإسرائيلية، مع العلم أنَّ أميركا عادة تمنح الأونروا ما بين 300 إلى 400 مليون دولار سنوياً.

وقالت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشهر الماضي إنها أوقفت بشكل مؤقت التمويل الجديد للأونروا، ومن أجل إضفاء طلاء من المصداقية على قرارها، ربطت بينه وبين ادعائها أنها ستحقق في مزاعم إسرائيل بمشاركة 12 موظفاً من موظفي الأونروا في هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل، وقد تضمن مشروع قانون كشف عنه أعضاء بمجلس الشيوخ بنداً يمنع الوكالة من تلقي الأموال ولم يحددوا شكل المنع أو لونه ومدته؛ مما يسمح بالتكهن من أنه إيقاف نهائي.

إقرأ أيضاً: نظام الملالي في إيران... الصندوق الأسود

وقد بيَّن موضحاً حيثيات الموقف الأميركي نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية فيدانت باتل، قائلاً إنَّ واشنطن تدعم الأونروا "لعملها شديد الأهمية" باعتبارها وكالة الإغاثة الرئيسية للفلسطينيين، لكنها ترغب في رؤية "نتائج ملموسة" من تحقيق الأونروا في مزاعم إسرائيل، رافضاً تحديد متى ستتخذ الولايات المتحدة قرارا بشأن استئناف التمويل.

وبذلك حصلت إسرائيل على موقف رسمي، لا بل قرار يتألف من دول كثيرة من بينها أميركا، بأنَّ لقمة عيش أهل غزة من طريق التمويل الدولي والإقليمي قد تقلّصت إن لم نقل تلاشت وانعدمت، وأنَّ التحكم بها أصبح بيدها (إسرائيل) وتحت رحمتها التي لا وجود لها حتى في عالم الأحلام، وكذلك في قبضة الفيتو الأميركي سيئ الاستخدام.

إقرأ أيضاً: الأردن وشراء الذمم في كرة القدم

أما بالنسبة إلى الهدف الثاني، وهو تهجير أهل غزة قسراً أو طوعاً، فهو يستدعي لتحقيقه حرمان أهل القطاع من الأمن، فقد تحركت إسرائيل نحوه، وكانت أداتها في تحقيقه حرب الإبادة التي تمارسها ضد أهل القطاع من البر والبحر والجو منذ خمسة أشهر لتهجيرهم من جهتين، وهما جهة التهجير الاختياري عبر إغراء بعض العوائل الغزاوية بمختلف أنواع المغريات المادية لكي يوافقوا على ترحيلهم إلى دول أخرى مثل الكونغو ورواندا، والجهة الثانية عبر التهجير القسري من خلال هدم المنازل وتدمير البنى التحتية، والقتل الواسع المرعب عبر تكثيف الآلة الحربية الجهنمية لأسلحتها على رؤوسهم، فقد ارتفعت حصيلة ضحايا العدوان إلى 27 ألفاً و478 شهيداً و66 ألفاً و835 مصاباً منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وفق وزارة الصحة الفلسطينية ووففق الأمم المتحدة.

وتعمل إسرائيل كذلك من خلال مناشدة دول العالم لقبول المهجرين الفلسطينيين كلاجئين على أراضيها، وتم الإعلان عن ذلك عبر دعوة النائب اليميني إلإسرائيلي تسفي سوكوت دول العالم لفتح أبوابها أمام "هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة" بهدف إفراغه، وكذلك دعا إلى تحقيق هذا الهدف، وفي أكثر من مناسبة، وزيرا الأمن القومي والمالية الإسرائيليان، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فقد أعلنا عن دعمهما "التهجير الطوعي للفلسطينيين" من قطاع غزة.

إقرأ أيضاً: هيا بنا نقصف سوريا!

أما النازحون من ويلات القصف الإسرائيلي باتجاه سيناء، إذ لا يوجد أمامهم وجهة سواها ينزحون إليها بحثاً عن الأمان، فإنَّ مصر العروبة وأرض الكنانة وأرض خير أجناد الله كما يزعمون وأم الدنيا كما يدعون قد استقلبتهم بوضع مزيد من الأسلاك الشائكة على السياج الحدودي لمنع الفلسطينيين من العبور في ظل حالة الحصار الشديد الذي يفرضها جيش الإحتلال الإسرائيلي على أهل قطاع غزة.

ويقول المتابعون لمسار أحداث الأوضاع في غزة إنَّ تعزيز الجدار الخرساني من قبل السلطات المصرية قد جاء مع انتشار خيام النازحين الفلسطينيين بمحاذاة السياج الحدودي، فضلاً عن قيام الحكومة المصرية قبل فترة بإغلاق وردم أكثر من 1500 نفق كان الفلسطينيون يستغلونها في حربهم مع إسرائيل من أجل تحرير وطنهم والحصول على دولتهم المستقلة.