قدم الاقتصادي جوزيف باين مصطلح "اقتصاد التجارب" (Experience Economy) في عام 1990 في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، ويركز على أن الأعمال لا بد من أن تسعى إلى التركيز على خلق قيمة من خلال خلق التجارب الفريدة للعملاء أو الزبائن كوسيلة للتميز عن المنافسين. لاحظ باين أن الزبائن والعملاء لم يعودوا يكتفون بالشراء بالاعتماد فقط على جودة المنتجات والأسعار والخدمات، بل ما يدفعهم للشراء هو التجربة والشعور بالرضا بحد ذاته. وإشراك العميل بهذه التجربة التي لا تُنسى وتكون ممتعة هي الهدف بحد ذاته. وفي عالم الأعمال اليوم، إذا أردت أن تزدهر أعمالك، فلا بد من أن تركز على تقديم التجربة الفريدة والمميزة لعملائك.

تشير التقارير إلى أن 78 بالمئة من جيل الألفية (الذين تتراوح أعمارهم بين 27 و42 عاماً) يختارون اليوم الإنفاق على التجارب أكثر من المنتجات نفسها. إن خلق قيمة للتجربة آخذ في الازدياد في عالم متخم بالخيارات، حيث أن التجربة الفريدة تلبي الاحتياجات العاطفية للعملاء وتجذبهم. ويعتمد اقتصاد التجارب على خلق فعاليات جاذبة يتفاعل معها العملاء، حيث تأخذهم التجربة من حجرات التسوق على النت إلى خوض تجربة عملية وفريدة في التسوق والسياحة، عن طريق المشاركة بالمهرجانات الموسيقية والفنية والرياضية. ونجد اليوم الكثير من تجار التجزئة وسلاسل الأسواق يسعون إلى تقديم تجربة تسوق تكون غامرة وشخصية لعملائهم. ويعلق سكوت مالكين، مؤسس شركة Value Retail الذي تملك بعضاً من أفضل وجهات التسوق الفاخرة أداء في العالم، "إن تجربة التسوق الفعلية أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى"، ويتابع قائلاً "إنَّ الأمر يتعلق بالدفاع عن روح التجربة وخلق الفرح لضيوفنا".

واليوم، نستطيع أن نوسع ونستعير مصطلح "اقتصاد التجارب" ليشمل المدن، فيمكننا أن نطلق عليها "مدن التجارب" (Experience City)، وهي المدن المستقبلية التي تخلق قيمة لنفسها من خلال خلق تجارب مميزة لسكانها وزائريها، بحيث تصبح الوجهة الأفضل للجميع. وفي المنطقة العربية نجد هذا المثال واضحاً من خلال النظر إلى واحات الرفاهية كمدينة الرياض ودبي والدوحة، فمن خلال تركيز هذه المدن على النشاط السياحي والترفيهي والحفلات والمهرجانات الثقافية والموسيقية والرياضية واستضافة القمم والمؤتمرات العالمية المناخية والرقمية والاقتصادية، وأيضاً من خلال العمل على بناء البنية التحتية السياحية والرقمية اللازمة لاستقبال هذه الفعاليات، وخلق تجربة مثيرة وفريدة لدى الزائر، واستمتاعه أيضاً بالفنادق المميزة وخدماتها وبالمطاعم ومطابخها العالمية والكافيهات، فإنَّ اندماج الشعوب صار حقيقة تحت قبة الخدمة المميزة وخلق تجربة فريدة للزائرين والعملاء.

وتوسعت التجارب لتشمل الإندماج في أنواع الطعام والمطابخ العالمية، فصرنا نجد مطبخاً يقدم طعاماً صينياً بنكهة أميركية، وطعاماً خليجياً بنكهة أوروبية، وغيرها من أصناف التجارب المثيرة للطعام والشراب. فاليوم، يذهب الزبائن والزائرون في رحلة بالمنطاد أو القفز بالمظلات أو البنجي ليس من أجل النتيجة النهائية، ولكن من أجل الرحلة والتجربة الممتعة نفسها. ومع ارتفاع شعبية وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان العملاء مشاركة تجاربهم مع جمهور أوسع، ونستطيع أن نرى أن هذه الصناعة للتجارب الفريدة تسعى باستمرار لابتكار طرق فريدة لإبهار عملائها.

وطبعاً مع التطور الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأ يبرز أيضاً "اقتصاد التجارب الرقمية"، حيث تسعى شركات التكنولوجيا لخلق تجارب فريدة وشخصية لعملائها، وتستخدم الشركات البيانات للعملاء لتخصيص تجربة تسوق غامرة تسعد بها العملاء وتسعى إلى خلق ثقة وعلاقات دائمة مع عملائها.

ومع دخول الذكاء الاصطناعي الساحة، ستتعزز التجارب الشخصية في مدينة الغد. تخيل اليوم مدينة المستقبل التي تتوقع احتياجاتك قبل أن تعبر عنها، وتعيش فيها تجربة ثرية. فالذكاء الاصطناعي سيحلل البيانات للمستخدم لفهم التفضيلات الفردية وتنظيم التوصيات؛ تخيل أنه يمكن ربط السياح مع بعضهم بعضاً ومع السكان عن طريق توافق هواياتهم، مما سيعزز مستوى المشاركة الاجتماعية والرضا الأعمق والتجربة الشاملة. وسيساهم الذكاء الاصطناعي في دعم حركة التنقل السلس وتقليل الازدحام ووقت السفر، مما سيحسن تجربة التنقل ويخلق بيئة أنظف وأكثر استدامة، كما سيساعد الذكاء الاصطناعي في الصيانة الوقائية لتجنب الأعطال، والعيش في بيئة حضرية أكثر موثوقية وكفاءة، وستتعزز أيضاً السلامة العامة وتساعد في إنفاذ القانون وتخصيص الاستجابة الفورية لحالات الطوارئ. وقد بدأنا نرى هولندا تستخدم الذكاء الاصطناعي في ضبط التوقيت بناء على بيانات حركة المرور، مما يقلل الازدحام ويحسن جودة الهواء، وفي سنغافورة، تفيد الدولة من الذكاء الاصطناعي لتحسين جداول النقل العام، وفي دبي، تنشر تقنية التعرف على الوجه والتحليلات التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتعزيز السلامة العامة ومنع الجريمة.

في عصرنا هذا، لا تقاس القيمة بما نمتلكه من ماديات فقط، بل بما نختبره من لحظات وذكريات. ومدن كالرياض ودبي وسنغافورة ليست مجرد نقاط على الخريطة، بل هي بوابات لعوالم مليئة بالتجارب الفريدة والذكريات التي لا تنسى، وهي وسيلة للترابط والتواصل العصري؛ ومدن التجارب هذه ستكون المحرك القوي للنمو الاقتصادي ووسيلة لإثراء الروح الإنسانية... وكما يعلق الفيلسوف رالف ايمرسون: "إنها ليست الوجهة، إنها الرحلة".