ربما يؤكد ما جاء في تناولنا السابق تحت هذا العنوان ما تُظهره الأحداث في قطاع غزة والضفة الغربية لكل متابع عبر وسائل الإعلام المتلفزة والمقروءة. فبعد هذه الشهور من القتل والتقتيل والهدم والتخريب والتجريف، وبعد وصول الضحايا إلى ما يزيد على 31 ألف قتيل، باستثناء من دفنوا تحت أنقاض المدن وهدم المباني في قطاع غزة دون الضفة الغربية، ما زال المتابع يشاهد أن بعض المقاربات الدولية للحدث تتحرك في اتجاه السيطرة وضبط القتل والتقتيل، وليس في اتجاه إيقافه. وهذا ما يقوله اعتراض الغرب الأطلسي الأنغلوسكسوني وإشهاره حق الفيتو داخل مجلس الأمن فى وجه كل محاولات وقف هذا العبث والسفه المسّرف بالحياة. ولم يكتف الغرب بالفيتو، بل نجده يسانده ويدعمه بالامتناع عن التصويت لمطلب وقف الخراب والتجريف الأعمى للحياة فوق الجغرافية الفلسطينية، بل ويذهب إلى أكثر من هذا، عندما لا يمانع في استمراره، ولكن بالابتعاد عن استخدام الأسلحة العمياء إلى الذكية منها. ولم يقف عند هذا الحد، بل اجترح وتابع لضبط القتل ما أسماه "قواعد الاشتباك" وحرص على الالتزام بها، كما يحدث على جانبي الحدود الفلسطينية اللبنانية.

هؤلاء - في تقديري - ليسوا منحازين إلى هذا الطرف أو إلى ذاك، بل إلى إدامة واستمرار القتال المنضبط والمسيطر عليه فوق الجغرافية الفلسطينية، كي تستمر جذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني متّقدة، وهو ما تحتاجه حياة كيان الشرق الأوسط كي تتنفس الوجود. وما يتطّلبه توّطين وتجّذير حالة اللاحرب واللاسلم في أرجاء شرق وجنوب حوض المتوسط، مصحوباً بإدارة أمّنية مكملة ذات قبضة بوليسية قمّعية في نُظم وظيفّية، تغطي جل هذا الفضاء الإقليمي، وتحافظ على إبقاء حالة اللاحرب واللاسلم بعيدة عن الانفلات والتوسع على امتداد سنين كيان الشرق الأوسط المديدة، والتي تخطت وتجاوزت حتى يوم الناس هذا قرناً من الزمان.

كنت أحاول القول إنَّ هذه الصيغة من المقاربات لما يحدث من اضطراب وغليان بفضاء شرق وجنوب حوض المتوسط، هي محاولات لإخماد جذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني والسيطرة عليها، وليس سعياً نحو إطفائها، وهذا سينتهي ليس غير إلى ما كان سائداً قبل أحداث غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، إذا لم يُتخذ من محاولات الإخماد مرتكزاً ومنطلقاً وخطوة إلى تفكيك الصراع للوصول به إلى حل الدولتين. وفي هذه الخطوة - في تقديري - سيفتح الباب لتداعيات إيجابية على عموم جغرافيات شرق وجنوب حوض المتوسط، وعلى فضائه الإقليمي القريب والدولي البعيد. فمثلاً، من جهة انعكاسه على الاستقرار والأمن الدوليين، في هذه الخطوة ابعاد لكل الظروف الموضوعية ومنها إبقاء جذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني متقدة، والتي كانت تمثل العنصر الذي تحتاجه البيئة الاجتماعية لفضاء شرق وجنوب حوض المتوسط لتكون بيئة مُنتجة لكل ما هو راديكالي متشنج، يُربك ويُقلق الاستقرار والأمن الدوليين. وفي ذلك أيضاً، تتراجع الحاجة للإدارة الأمنية عبر نظم وظيفية لهذا الفضاء الحيوي القامعة والمُربكة للتنموي والخدمي والانمائي والحقوقي في الداخل المحلي لفضاء شرق وجنوب المتوسط، وكذلك وفي خطوة إطفاء جذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني، تأسيس لسلوك دولي مسؤول باتجاه كل ما قد يجر العالم إلى ويلات حروب سابقة ذهب ضحيتها ملايين البشر. وكل هذا وفي مُجمله سينعكس إيجاباً على التنموي والخدمي والإنمائي والحقوقي بفضاء جنوب وشرق حوض المتوسط بساكنته وقاطنيه. وفي ذلك إسناد ودعم للاستقرار والأمن الدوليين بفضاء حوض المتوسط الحيوي.