ما نشاهده من أحداث تعصف بالجغرافية الفلسطينية في غزة والضفة الغربية ومحيطهما الإقليمي في البحر الأحمر واليمن ولبنان، وما تمُور به ليبيا والسودان، كله، فى مجموعه، ليس غير أعراض لتأزم مسّتحكم بالفضاء الجغرافي لشرق وجنوب حوض المتوسط الحيوي. هذا التأزم جعل ذاك الفضاء حبيس حالة اللاحرب واللاسلم على امتداد قُرابة قرن من الزمان. وقد جاء توطين حالة اللاحرب واللاسلم بهذا الفضاء البائس، مع أحداث الحرب العالمية الأولى ونهايتها، التي تمخضت عما يُعرف بكيان الشرق الأوسط، وقد خطته ورسمته كيفما شاءت أيادي المنتصرين في تلك الحرب، وثبتته واعتمدته الثانية التي تلتها.

ما تعانيه فلسطين، وما يُربك الممر الملاحي العابر للبحر الأحمر، وما تضطرب به اليمن ولبنان، وما تمُور به ليبيا وسوريا والسودان وغيرها يجب النظر إليه وقراءته ومقاربته، في تقديري، بصفته أعراض حالة اللاحرب واللاسلم التي تكتنف الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب حوض المتوسط، وبالتالي يجب عدم عزل ما يدور ويشّغل هذه المسميات عن بعضها بعضاً. فمجمل ما يكتنف هذه المسميات من أحداث بتعدد تنوعاتها، لا يخرجها عن كونها أعراضاً لحالة تأزم واحدة، تحتاج، في تقديري إلى ديمومة واستمرار حياة كيان الشرق الأوسط، الذي تجلّبب وتدثر بجغرافيات المنطقة، جاعلاً منها الملموس والمحسوس الذى ينبض به كيانه. فكيان الشرق الأوسط، في تقديرى، وُجد ليتنفس الحياة من خلال استمرار حالة اللاحرب واللاسلم منذ لحظة ولادته إلى يوم الناس هذا.

إنَّ البداية لكل هذا الاضطراب، الذي قارب على قفل قرن من الزمان، جاءت مع ترحيل المسألة اليهودية من الجغرافية الأوروبية إلى فضاء شرق وجنوب المتوسط، دونما ترتيبات دولية جادة مقبولة ومسؤولة تعمل على توفير الأمن والاستقرار داخل هذا الفضاء الحيوي. وكان هذا الترحيل المنقوص ما أشعل جذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني على جغرافية فلسطين، وأدخل هذا الفضاء الحيوي في حالة اللاحرب واللاسلم. وكان من نتائجه أن تبتلع حالة بؤس وتخلف ومعاناة لا مثيل لها ليس الجغرافية الفلسطينية فحسب، بل جملة الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط.

إقرأ أيضاً: بكل الطُرق الممكنة باقون

إنَّ استمرار حالة اللاحرب واللاسلم، والتي تعتبر إكسير الحياة لكيان الشرق الاوسط، يتطلّب المحافظة على اتقاد واشتعال دائم لجذوة الصراع الفلسطيني الصهيوني، ولكن بقدر معلوم، وهذا القدر المعلوم يفرضه الواقع الموضوعي والجغرافي والديمغرافي والثقافي الذي يربط ويُشبّك ويشدّ فضاء شرق وجنوب المتوسط بعضه إلى بعض، والذي، فى آن، يسّتثيره بل ويسّتفزه حتى الاستنفار استمرار اشتعال جذوة الصراع الفلسطيني – الصهيوني. وللتغلب على هذا التضارب والتضاد ما بين المحافظة على استمرار اتقاد واشتعال جدوة الصراع، وذلك بالنفخ في أوّارها، وحالة الاستثارة والاستفزاز التى تحدثها داخل جغرافيات شرق وجنوب حوض المتوسط، انتبهت قريحة أرباب وسدنة كيان الشرق الأوسط إلى الحاجة لإدارة أمنية في نظم وظيفية تتولى ضبط وحفظ الأمن والاستقرار بمجمل فضاء شرق وجنوب حوض المتوسط، وهذه الأمنية التي ترتكز في مفاعيلها على القبضة البوليسية والقمع والزنازين والسجون، بعيداً عن مقابلها المنتج البناء في النهج الخدمي التنموي الإنمائي، فهذه الإدارة الأمنية، وليس غيرها، من أغرق جنوب وشرق المتوسط في حالة من بؤس وتخلّف دائمين، وما ترتب وسيترتب على ذلك من ارتدادات وتداعيات راديكالية متشنجة، عبثت بالمحلي والإقليمي، وتخطّته لتطال بضررها الأمن والاستقرار الدوليين.

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

ما نشاهده ونعايشه من اضطرابات تعصف بمجمل الفضاء الجغرافى لشرق وجنوب المتوسط ما هي إلا أعراض لعلّة واحدة استوطنت هذا الفضاء الحيوي وأرهقته واستنزفت كل مقدراته الحيوية، بشرية كانت أو طبيعية مادية أو معنوية، ووضعته في حالة من تخلّف مُريع، جاعلة منه بؤرة من العبث والسفه، وأي مقاربة تتوخى وتسعى إلى معالجة هذا التأزم، وتحاول في مسعاها تجاهل ما جاء في مضمون ما سبق أو القفز عنه، ليست غير محاولة لإعادة إنتاج ما كان سائداً، وإطالة وتمديد حالة اللاحرب واللاسلم، التى عانت منها لا فلسطين وساكنتها فحسب، بل كل فضاء جنوب وشرق حوض المتوسط ومحيطه القريب والبعيد.