أعلن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أمام وسائل الإعلام عقب لقائه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 8 آذار (مارس)، أنه قدم لنظيره التركي قائمة بأسماء تتار القرم المحتجزين في روسيا، وتحدث عن الاضطهاد الذي يتعرضون له على يد الروس بسبب هويتهم.
ما ذكره الرئيس الأوكراني يتسق مع الرواية الغربية التي لا تنفك عن الترويج لمعاناة تتار القرم المزعومة في ظل "الاحتلال الروسي"، حسب التوصيف الغربي. فيما أن الوقائع تظهر بأن تتار القرم يعانون من الاضطهاد فعلاً، إنما ليس من الروس، بل من قبل الأوكران أنفسهم. وهذا ما تسعى السردية الغربية إلى حجبه من التداول.
سردية تناقض الوقائع
عموماً، فإنَّ الازدواجية الفاقعة في المعايير الغربية تجلت بوضوح في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، والتي أظهرت زيف الإدعاءات الغربية حول المساواة وحقوق الإنسان. وفيما واجه لاعبو كرة القدم في عدد من الأندية ضمن كبريات البطولات الأوروبية، الذين أعربوا عن تضامنهم مع المأساة الإنسانية التي يواجهها الشعب الفلسطيني، اضطهاداً معنوياً ومجتمعياً بلغ حد الطرد من النادي على خلفية منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، نجد أنَّ السلطات السياسية والكروية نفسها فرضت أوكرانيا قسراً على كل الفعاليات الرياضية والمباريات الكروية. حتى أنها فرضت وضع العلم الأوكراني على القنوات الناقلة بشكل ثابت، بالرغم من أنَّ الإشارات السياسية تعد من المحرمات الكروية والرياضية.
والحال أنَّ التسويق لمعاناة تتار القرم من "الاضطهاد الروسي" يندرج ضمن السردية الغربية نفسها عن "المظلومية الأوكرانية". فمنذ عودة القرم إلى أحضان الوطن الأم عام 2014، غداة استفتاء شعبي، أظهر رغبة أكثرية أهله، بينهم المسلمون التتار، في الحصول الهوية الروسية، تقوم وسائل الإعلام الغربية، مثل BBC وEuro News وFrance 24 وPolitico وThe Atlantic وغيرها الكثير، بتسويق فكرة اضطهاد الروس لأهالي هذا الإقليم، عبر تقارير صحفية حافلة بالتضخيم والافتراءات. وكذلك عبر تقارير لمنظمات دولية وإنسانية تدور في الفلك الأميركي.
في الوقت الذي تتغافل فيه هذه السردية عن حقيقة أنَّ الاستفتاء الذي جرى تنظيمه في 16 آذار (مارس) 2014، بقرار من برلمان القرم، كان شرعياً وفق القوانين والمعايير الغربية نفسها، حيث شهد عليه 150 مراقباً من 23 بلداً في العالم. ويتسق مع المادة 138 من الدستور الأوكراني الذي يتيح لشعوب المناطق الأوكرانية تقرير مصيرها، وفي الوقت عينه ينسجم هذا الاستفتاء مع المادة 73 من ميثاق الأمم المتحدة. وقد اتكأت السردية الغربية في بعض الأحيان على بعض المواقع الإسلامية، التي نشرت تقارير عن معاناة تتار القرم في ظل الحكم السوفيتي، من أجل منح مزاعمها مصداقية، ولا سيما في العالم الإسلامي.
فشل محاولات تأليب تتار القرم
يمثل تتار القرم نحو 12 بالمئة من سكانها البالغ عددهم نحو مليوني نسمة. في حين أنهم كانوا يمثلون الأكثرية في القرن التاسع عشر وما قبله. تركز وسائل الإعلام الغربية على استحضار النموذج الذي اتبعه الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بـ"الترانسفير" السكاني لبعض الأعراق، بهدف الحؤول دون تشكيلهم تهديداً للدولة السوفيتية في أي وقت، وتعمل على إسقاطه على الواقع الراهن في القرم، من أجل الترويج لمأساة إنسانية مزعومة، وتأليب المسلمين التتار ضد موسكو.
ولتحقيق هذه الغايات، سعى الغرب إلى استخدام وسائل الغزو الناعمة، حتى قبل حصول الاستفتاء، وذلك عقب المظاهرات الحاشدة لسكان القرم المناهضة للحكومة الأوكرانية في آب (أغسطس) 2009. مثل فيلم Haytarma الأوكراني عام 2013، والذي تدور قصته حول طيار حربي من أبطال الاتحاد السوفيتي، وينتمي إلى تتار القرم. يركز الفيلم على الصدمة التي عانى منها الطيار حينما شهد نفي أبناء عرقه إلى خارج ديارهم.
بيد أن كل تلك الجهود لم تفضِ إلى تحقيق نتائج تذكر ضمن أوساط تتار القرم، وذلك بسبب ميل غالبيتهم العظمى إلى روسيا، ورغبتهم الحقيقية في أن يكونوا مواطنين روس. من دون إغفال وجود أقلية تترية تؤيد الغرب والهوية الأوكرانية. ويعد ذلك أمراً طبيعياً في ظل المصالح المتشابكة والإغراءات التي يقدمها الغرب للنخب التترية من أجل استقطابها. لذا لم يكن تفصيلاً ثانوياً أن يختار الرئيس الأوكراني مستشارة له من تتار القرم، وأن تعمل وسائل الإعلام الغربية على إبرازها. وكذلك اختار وزير دفاعه من العرقية نفسها، في محاولة لستر فضائح صفقات الأسلحة الأميركية والأوروبية، والتي تورط فيها كبار قيادات جيشه، تحت ستار المظلومية المزعومة.
واقع الحال أنَّ المسلمين التتار تنفسوا الصعداء عقب عودة القرم إلى السيادة الروسية، نتيجة ما لمسوه من حرية في ممارسة شعائرهم الدينية، بعكس التضييق الذي عانوا منه لعقود إبان السيادة الأوكرانية. وفي فيديوهات انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، كشف أكثر من رجل دين من المسلمين التتار أنَّ عيدي الفطر والأضحى صارا عطلة رسمية تحت السيادة الروسية، في حين أنه كان ممنوعاً عليهم الاحتفال بالأعياد الإسلامية أيام السيطرة الأوكرانية.
حقائق ممنوعة من الصرف
خلال دردشة سابقة مع إحدى الطبيبات المنتمية إلى تتار القرم، والمتزوجة من طبيب لبناني، عقب أسابيع قليلة من عودة شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسية، كشفت أنها قدمت وعائلتها التي ما تزال تعيش في القرم طلباً للحصول على جوازات سفر روسية. وحينما سألتها عن سبب تفضيلهم الهوية الروسية على الأوكرانية، كان جوابها أن لا مجال للمقارنة بين الهويتين، فروسيا دولة عظمى وتحترم مواطنيها. وأكدت أنها وعائلتها تعتز كثيراً بالهوية الروسية، ولا سيما أنهم لطالما عانوا من تمييز عرقي من قبل السلطات الأوكرانية في السابق. بالطبع، فإنَّ ما قالته الطبيبة المذكورة يشكل لسان حال العشرات من أبناء تتار القرم في المهاجر، وهذا ما سعى الغرب إلى قمعه ومنعه من التداول.
أبعد من ذلك، فإنَّ النموذج نفسه الذي تروج له وسائل الإعلام الغربية، وهو "التغريبة التترية" في ظل "النموذج الستاليني"، يشكل دليلاً على نفاق الغرب. إذ أن ستالين قام بنقل ما قدر بنحو 200 ألف من تتار القرم إلى أواسط آسيا من أجل توطينهم في أوزبكستان وكازاخستان. ثم عادت السلطات السوفيتية وسمحت لهم بالعودة إلى ديارهم منذ أواخر ستينيَّات القرن الماضي. كما قدم لهم مخائيل غورباتشوف، آخر الزعماء السوفيات، اعتذاراً رسمياً عن هذه السياسة. وهذا ما تتغافل عنه السردية الغربية، بالإضافة إلى عامل شديد الأهمية، وهو حرمان شريحة واسعة من تتار القرم من الجنسية الأوكرانية إلا مقابل 100 دولار عن كل شخص. وهذا المبلغ عجزت عنه الكثير من الأسر التترية نظراً لأوضاعها البائسة في ظل السيادة الأوكرانية، مما جعلها تعيش على الهامش تماماً. ناهيكم عن حرمان من حصل منهم على الجنسية الأوكرانية من تسنم مناصب في هيكلية الدولة.
تحاول السردية الغربية التغافل عن كل ما سبق، والقفز فوق الحقائق الراسخة من خلال الترويج لمظلومية تتار القرم، وانضمام البعض منهم إلى ما يسمى بـ"المقاومة الشعبية"، في حين أنَّ الغالبية العظمى من مسلمي القرم كانوا في طليعة المطالبين بالانسلاخ عن أوكرانيا، وتطوع العشرات منهم إلى التطوع للقتال مع الجيش الروسي ضد الحلف الغربي.
التعليقات