كشفت الحرب الدائرة في قطاع غزة عن فراغ هائل للقوة في منطقة الشرق الأوسط، والدليل الأهم على ذلك هو الفوضى التي تثيرها ميلشيات الإرهاب المتفرقة في اليمن والعراق وسوريا في المنطقة من دون رادع، ومن دون امتلاك أي قوة دولية أو حتى المجتمع الدولي بأكمله القدرة على حشد الموارد اللازمة لوقف هجمات هذه الميلشيات.

من التطورات التي لفتت انتباهي الفترة الأخيرة وتعكس ما يمكن أن يسفر عنه فراغ القوة والفوضى السائدة في الشرق الأوسط هو إعلان جماعة "الحوثي" الإرهابية عن إجراء تجربة لصاروخ فرط صوتي، حيث أكدت الجماعة أن سرعة الصاروخ تبلغ نحو 10 آلاف كم/ ساعة، وان هناك نية لإطلاق عملية انتاجه للاستخدام في البحر الأحمر. الحوثيون يتحدثون عن تجارب استغرقت 3 أشهر لتطوير الصواريخ والمسيرات لزيادة قوتها وفاعليتها، وهذا هو الهراء الذي يفترض في الآخرين سذاجة مفرطة تؤهلهم لتصديق قدرات عسكرية استغرقت سنوات طويلة من قوى عظمى لتطويرها.

لا أدرى إن كان هذا التطور هو ما دفع إدارة الرئيس بايدن للمسارعة إلى عقد حوار غير مباشر مع طهران للجم اندفاع الحوثيين أم لا، ولكنه في كل الأحوال برهان ساطع على ما يمكن أن تنتجه الفوضى في منطقة مليئة بالأزمات ومشحونة بعوامل الانفجار الذاتي.

ليس لدي ـ كمراقب ـ أي استعداد لمناقشة احتمالية التطوير الذاتي لسلاح متطور لدى الحوثيين، فالمسألة أعقد من تتم في بيئة تفتقر إلى التكنولوجيا المعقدة اللازمة لتطوير مسيّرات أو صواريخ، ناهيك عن كونها صواريخ فرط صوتية، وهي الصواريخ التي لا تمتلكها سوى دول معدودة في العالم مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران مؤخراً، وهنا نضع العديد من السطور، حيث كشف الحرس الثوري مؤخراً عن الصاروخ الفرط صوتي "فتاح"، الذي قيل أنه يستطيع التحليق بسرعة تصل إلى 15 ضعف سرعة الصوت. ويصل مداه إلى 1400 كم وقادر على تجاوز انظمة الدفاع الجوي، وهو الاعلان الذي قوبل بشكوك من بعض الخبراء العسكريين، وبالتالي كيف لجماعة الحوثي أن تطور تكنولوجيا بهذا التقدم في ظروف يعلمها الجميع؟

أياً كانت صحة الاعلان الحوثي، فإنه يحمل إشارة سلبية دالة على أن الشرق الأوسط لا ينتظره الكثير من الأخبار الايجابية في المدى المنظور، والعجز الأمريكي والغربي عن بسط الأمن وتطبيق القانون الدولي قد أطلق العنان للميلشيات لنشر الفوضى في المنطقة، وهو ماينذر بالشر المستطير لأن العاقل لن يسعد كثيراً باستهداف أي ميلشيا إرهابية لإسرائيل بصواريخ متقدمة، يمكن أن تجلب رداً أكبر يحمل الإنتقام القاسي والغضب من دولة تمتلك قدرات نووية سواء اعترفت بذلك أم لم تعترف.

هناك علامات مهمة فيما يحدث في الشرق الأوسط أهمها برأيي هو أن بعض الأطراف الاقليمية تقرأ بشكل خاطىء وينطوي على الكثير من المغامرة، مشاهد الاستقطاب الدولي الحاصل، وهناك تصورات بأن العصر الأميركي وبالتالي الغربي قد انتهى، وطويت صفحته، وأن الفرصة سانحة لإعادة رسم خارطة المنطقة وفق ما يترآى لهذه الأطراف، لاسيما أن حالة الوهن الغربية تتزامن حالة انسحاب وتراجع استراتيجي عربي جماعي لأسباب معروفة للجميع، وربما يزداد الوضع سوءاً في حال تصاعد الصراع في أوكرانيا ورجحت كفة الفريق الداعي لإرسال قوات لمواجهة روسيا بدلاً من التسليم بالأمر الواقع والتوجه نحو مفاوضات تنهي الحرب الدائرة في هذا البلد، والشاهد على وجود هذه الاحتمالية أن هناك تيار أوروبي يقوده رئيس فرنسا ويدعو إلى ضرورة الحيلولة دون انتصار روسيا في أوكرانيا، ومن ثم يذهب إلى مقترحات مثيرة للجدل مثل إرسال قوات أطلسية أو حشد المزيد من الدعم العسكري الأوروبي في ظل تأخر الدعم العسكري الأمريكي بسبب الخلاف داخل الكونجرس.

الخلاصة أن التعقيد المحتمل في أزمة أوكرانيا يمكن أن يدفع باتجاه المزيد من الفوضى في الشرق الأوسط، وهذا يصب في مصلحة الميلشيات الإرهابية ومموليها ورعاتها من دول وتنظيمات عابرة للجغرافيا، ولاسيما أن هناك شواهد على أن حرب غزة قد عززت نفوذ إيران ودورها وتأثيرها الاستراتيجي في رسم معادلات الاستقرار الاقليمي، ناهيك عن تأثيرات دورها على النفوذ الأمريكي العالمي ذاته، حيث اضطرت الولايات المتحدة لتركيز اهتمامها وتعديل أولوياتها الاستراتيجية على الأقل في الوقت الراهن في منطقة الشرق الأوسط، ورغم ذلك لم تفلح حتى الآن في تنفيذ ما يعكس مكانتها كقوة عالمية مهيمنة تمتلك موارد قوة هائلة.

حرب غزة أيضاً خلطت جميع الأوراق، وأظهرت خطورة فراع القوة الناشىء في المنطقة في ظل هذه الفوضى الاقليمية العارمة، ولاسيما أنه في ظل تراجع النفوذ الأمريكي، تظل قوى دولية أخرى بعيدة عن الرغبة في شغل هذا الفراغ لأسباب واعتبارات تخص مصالحها وأولوياتها الاستراتيجية، فالصين لا تزال تحجم عن التدخل المباشر دفاعاً عن مصالحها خشية التورط مبكراً في صراعات الشرق الأوسط المعقدة، وروسيا مشغولة بحربها في أوكرانيا ولا تريد فتح جبهات جديدة مع الولايات المتحدة والغرب في وقت تظهر فيه الدعوات لإرسال قوات أطلسية للقتال في أوكرانيا. وفوق هذا وذاك لا مؤشرات في الأفق لتوصل العرب وإسرائيل إلى صيغة ملائمة لتحقيق الأمن والاستقرار للطرفين معاً في إطار حل لتحييد التهديد الإيراني وما يعرف بمحور المقاومة، الذي تصب الظروف الراهنة في مصلحته بشكل مطلق.