مصيبة الواقع السياسي في العراق أنه يُدار من قبل جماعات مأزومة ومرتبكة تختلط معها الأهداف والغايات، فلا حلول لديها للحفاظ على بقائها سوى المزيد من العنف والاستبداد. لكنَّ الصفة الوحيدة التي يتّفوقون بها هي قدرتهم الاستثنائية على صنع الأعداء بلعبة أشبه بالمقامرة، تقرر مصير شعب مُتعب أصلاً ولا يحتاج إلى مزيد من التأزيم والإرهاق في حياته اليومية، لكنها الإطماع السياسيَّة.

سلسلة من الهجمات شهدتها بغداد والبصرة من أحداث عنف شملت مطاعم KFC وChilli House وماكدونالدز وشركة كتربلر للمعدات الثقيلة ومعهد لغات في بغداد، رافقتها أحداث تخريب ممتلكات بحجة التضامن مع شعب غزّة من خلال ضرب المصالح البريطانية والأميركية التي تناصر إسرائيل في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين. لكنَّ اللافت أنَّ بعض هذه المطاعم لا يمت إلى دول المنشأ سوى بالعناوين التي يحاول مالكوها جذب الزبائن من خلالها، ترويجاً لبضاعتهم، وفي ذات الوقت تشغل هذه الاستثمارات مئات العاملين من العراقيين مانحة إياهم فرصة إعالة عوائلهم في بلد يكثر فيه العاطلون عن العمل وتشح فرص البحث عنها، وترتادها أغلب العوائل العراقية لرخص أسعارها.

بالمختصر المفيد، هي مصالح واستثمارات خسرها طرف معين حتى رفع شعار "لو ألعب لو أخرّب الملعب".

تتسابق الماكنة الإعلامية لقوى السلاح المنفلت لتبرير تلك الأفعال بأنها ثورة غضب وتنديد لما تفعله أميركا وبريطانيا في مساندة إسرائيل، لكنَّ السؤال هو هل استطاعت تلك الأفعال الفوضوية أن تحد من القتل الإسرائيلي للفلسطينيين؟

إقرأ أيضاً: أميركا تلتزم بأمن إسرائيل... هل وصلت الرسالة للإطاريين؟

في مساء الإثنين 3 أيار (مايو)، صوّت البرلمان العراقي على موازنة العراق لعام 2024، والغرابة هو ما تضمنته إحدى فقرات الموازنة من موافقة عراقية لتمويل مشروع أنبوب نفطي يمتد من البصرة إلى العقبة، مما يتيح للأردن للحصول على النفط العراقي بالإضافة إلى تعهد عراقي بإنشاء الأنبوب على نفقته الخاصة بكلفة تصل إلى خمسة مليارات دولار. هذا المشروع الذي وافقت عليه حكومة الإطار التنسيقي وأيده البرلمان العراقي، كان قد واجه رفضاً ونقداً واسعاً في عهد رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي، على اعتبار أنَّ هذه الخطوة هي تجسير للعلاقات مع دول التطبيع مع إسرائيل، في مفارقة أنَّ القوى التي رفضت القرار بالأمس تقبله اليوم، فإذا كان العنوان الذي يشغل القوى السياسية هو نصرة غزّة وأهلها، فلماذا تم التصويت على هذا المشروع الذي يجعل من إسرائيل تحصل على النفط العراقي كما كان يروج له إعلامهم؟ وهل هناك محاولات لتطبيع قسري مع العراق سيبدأ من الجانب الاقتصادي؟

مشهد سياسي مليء بالتناقضات والغرابة، فما زالت البوصلة تائهة في تحديد الاتجاه إن كان هذا البلد يسير بخطوات نحو التطبيع ولكن باستحياء، أم انه من الرافضين للفكرة؟

إقرأ أيضاً: يحدث في العراق

في بداية الحديث أجملنا ما يحدث بأنه مقامرة لا يُجيد اللعبون لعبتها، فالقرار الأممي بإنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة في العراق بنهاية عام 2025 كان فرصة لحكومة رئيس الوزراء العراق يمحمد شياع السوداني لإثبات جدّيتها في توطيد الإستقلالية للقرار العراقي، إلا أنَّ الأحداث الأخيرة وما رافقها من فوضى وانفلات ربما تفرض إعادة التفكير بذلك القرار وتُدخل العراق في متاهات البند السابع الذي خرج منه مؤخراً.

جماعات اللادولة التي تتنقل بمركبات "التاهو" ذات العلامة الأميركية وتوثيقها لصور الفوضى بأجهزة "الآيفون" الأميركي الصنع أثارت الهلع في شوارع بغداد، حتى بات المواطن البسيط يدرك أنه صراع من أجل النفوذ والمصالح والمغانم، يتصارع عليها الفاعلون السياسيون من أجل الحصول على أكبر حصة من السلطة تحت عنوان المقاومة والمساندة في حرب غزّة، وهو مجمل ما يدور من حكاية في الشارع العراقي.