لن يتمكن الإسرائيليون من تجاوز التداعيات الاقتصادية الكارثية على حياتهم العامة، وسمعتهم الدولية، وتصنيفهم الائتماني، وثقة بيوت المال العالمية بهم وجاذبية اقتصادهم.

ولن يستعيدوا نسبة النمو الاقتصادي التي كانوا يتباهون بها، وقد لا يتمكنون من الحفاظ على النسبة المتدنية التي وصلوا إليها، جراء عدوانهم الواسع على قطاع غزة، وعموم الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية.

لن يتعافى اقتصادهم في المستقبل المنظور، ولن يستعيد استقراره، بل سيواصل انهياره، خاصةً في ظل تنامي الخوف من اتساع نطاق الحرب، واستهداف "غوش دان"، قلب الكيان السكاني والاقتصادي، فضلاً عن تضرر مرافق الشمال الاقتصادية الهائلة، والمعامل والمصانع والمزارع، ومخازن الغاز والنفط ومختلف المشتقات النفطية الخطيرة، وإغلاقها.

ستترك الحرب على غزة، التي ما زالت مستمرة، ولم تحقق شيئاً من أهدافها، آثاراً عميقة على الاقتصاد الإسرائيلي بأسره لفترة طويلة، حيث سيعاني من الانكماش والضمور، والركود والكساد، وتراجع كبير في حجم المداخيل ونسبة الصادرات وكمية الإنتاج. كما ستؤدي إلى عزوف عن الكماليات ومظاهر الترف، وانخفاض ملحوظ في جاذبية الأيدي العاملة، التي أسِر وقتل بعضها، وهرب الباقون منهم ولم يحل محلهم أحد، أو يشغل وظائفهم عمالٌ جدد، ما أدى إلى تعطل وحدوث اضطرابات كبيرة في العديد من قطاعات البناء والزراعة وأعمال البيئة والنظافة.

لن يزدهر الاقتصاد الإسرائيلي من جديد، ولن يعود الكيان الصهيوني كما كان جاذباً للرساميل الأجنبية أو للاستثمارات الخارجية. وسيفقد خاصية الأمان التي يبحث عنها المستثمرون ويحرص عليها المدخرون، وسيدخل اقتصادهم في مرحلة غير قصيرة من الغيبوبة والسبات والركود والكمون، مهما بلغ حجم الضخ المالي الدولي لهم، ودرجة الإسناد والحقن الأمريكي لصناديقهم، ما سيمنع نهوضه من جديد، ويحول دون استعادة عافيته.

لن تنتقل الرساميل "اليهودية" إلى كيانهم، ولن يقامر "اليهود" بمدخراتهم، ولن يتمكن "الصندوق القومي الصهيوني" من إنقاذ الاقتصاد الغارق، أو النهوض بالمشاريع الاستيطانية التي رهن تاريخه من أجلها، وأنفق مليارات الدولارات لجذب المستوطنين والمانحين إليها.

هذا الوصف ليس خيالاً ولا هو بالأماني والأحلام، فقد أظهرت دراسات إسرائيلية محلية عديدة، خلال الأحد عشر شهراً الماضية، وهي عمر الحرب على غزة، انهيار قطاعات اقتصادية إسرائيلية واسعة، شملت مناحي كثيرة ومرافق مختلفة، ليس أخطرها فقط انهيار السوق العقارية في الشمال والجنوب، التي تضررت ضرراً كبيراً بسبب الحرب جنوباً، والعمليات العسكرية شمالاً، ما أدى إلى نزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من مساكنهم، وخلو مستوطناتهم، وتعطل مرافقهم، وإغلاق مصانعهم ومعاملهم ومراكز الإنتاج المختلفة، ما تسبب في تدني أسعار الشقق السكنية، وعزوف المستوطنين عنها، وعدم رغبتهم في العودة إليها.

هذه كبرى المؤسسات الاقتصادية العالمية، وبيوت المال الدولية، تسحب ثقتها بالاقتصاد الإسرائيلي، وتعيد تصنيفه وفق سلم الدرجات الائتمانية العالمية. كما تؤكد أن العديد من المؤشرات الواردة من الأسواق الإسرائيلية تشير إلى اضطرابات في اقتصادهم، وتراجع في مداخيلهم، وعجز في خزينة الدولة ووارداتها. وأنه ما لم تقم الحكومة الإسرائيلية بوضع حد للانهيار المستمر والتراجع السريع في الاقتصاد، والذي يتطلب أساسًا وقف الحرب وإنهاء القتال، وتأمين المستوطنين، وإعادة تشغيل عجلة الإنتاج، فإن الكيان سيكون على شفا انهيار حقيقي، سيؤثر على العملة المحلية "الشيكل"، التي ستفقد قيمتها أمام سلة العملات الدولية التي ترتبط بها، وسيقود الانهيار إلى حالة تضخم غير مسبوقة في تاريخهم.

تبني مؤسسات المال الدولية مواقفها من الاقتصاد الإسرائيلي، وتخفض من تصنيفه الائتماني، وتحذر من إعادة تخفيض تصنيفه مرة أخرى، بناءً على أرقام ومعطيات، ومؤشرات ودلالات، لا تقتصر فقط على السوق المحلي الإسرائيلي، كمنتج ومستهلك ومصدر، بل تحسب بدقة عالية حركة وسياسة الأسواق العالمية التي انضمت إلى حملة المقاطعة الاقتصادية للكيان. وتشمل هذه المقاطعة قطاعات اقتصادية واسعة من دول أوروبية مختلفة، بالإضافة إلى تنامي حالة الرفض الشعبي لدى الأيدي العاملة في الأسواق الدولية والمرافئ ومحطات الشحن، الذين يرفضون التعامل مع الكيان الصهيوني تصديراً واستيراداً، ويرفضون تفريغ وتحميل صناديق الشحن الإسرائيلية.

ورغم أن هذه المؤشرات اقتصادية بحتة وعلمية دقيقة، إلا أن دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرهما من بيوت المال العالمية، لا تقبل بهذه التصنيفات، وتبذل جهودها لإعادة الثقة بالكيان، وضمان قدرته على الاستدانة وسداد الديون، والتجارة الخارجية والمقايضة في الأسواق. وما نراه من عمليات ضخ للودائع في البنوك الإسرائيلية، أكبر دليل على نية هذه الدول ومؤسساتها دعم الكيان ومنع انهيار أحد أهم ركائز مشروعه الاستيطاني.

أمام هذه الوقائع المستجدة التي نرى أن المقاومة الفلسطينية قد خلقتها، وأن الشعب الفلسطيني بتضحياته ودمائه قد فرضها، وبصبره وثباته وصموده وإصراره قد حكم عليها، ينبغي على كل قادر في هذا المجال، دولاً ومؤسسات وأفراداً، مواصلة العمل وبذل المزيد من الجهد، لتوسيع المقاطعة، وتعميق الأزمة، وديمومة الانهيار. وقد باتت دول العالم في أغلبها، بعد الجرائم الإسرائيلية المهولة بحق الشعب الفلسطيني، مهيأة ومقتنعة بضرورة حصار الكيان، ومنع مساعدته، والتوقف عن دعمه، وتجفيف موارده، وسحب الثقة منه، واتهام من يساعده، وإدانة من يؤيده.