إنَّ من يدفع ثمن الحرب التي اشعلتها دولة إسرائيل الفاشية يوم 23 أيلول (سبتمبر)، هو جماهير لبنان التي قتل منها خلال أقل من يومين فقط ما يقارب نصف ما قتل في حرب تموز 2006 خلال شهر.
الحملة العسكرية الواسعة على لبنان من قبل إسرائيل ليس لها أي علاقة بإعادة سكان إسرائيل إلى مناطقهم أو منازلهم، ولا بفصل حزب الله عن حماس كما يدعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إنَّها امتداد للحرب الوحشية والبربرية التي تقودها دولة إسرائيل الفاشية بعد تدمير قطاع غزة وقتل أكثر من 40 ألف مدني، 25 بالمئة منهم من الأطفال.
إنَّ الحرب على جماهير لبنان فرصة ذهبية ونادرة لن تتكرر لإسرائيل، فمسعاها في إعلان حملتها العسكرية الواسعة على لبنان، هي محاولة لاسترداد مكانتها وتفوقها عبر العنجهية العسكرية بعد الضربة التي وجٌهَت لها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) في العام الماضي، وفي الوقت ذاته استغلال حربها على لبنان لتحويل أنظار العالم عما اقترفت من جرائم حرب وحملة إبادة جماعية لسكان فلسطين في غزة.
اتضح مرة أخرى أنَّ الطبقة الحاكمة في إسرائيل من يسار ويمين ومعارضة، هي طبقة منسجمة وموحدة خلف سياسة نتنياهو وحكومته اليمينية الفاشية، وأنَّ الصراع بين أجنحة هذه الطبقة، الذي يبدو صاخباً في العلن ويراهن عليه الحمقى من كل حدب وصوب لإيقاف رحى طاحونة الحرب في غزة، هو صراع بالرؤى حول كيفية إدارة الحرب.
إنَّ كلا الطرفين المتحاربين من إسرائيل وحزب الله يختلقان الذرائع لتبرير الحرب، إلا أنَّ الوقائع تدل بأنَّ استهتار إسرائيل بحياة الأبرياء في لبنان مرده وقوف الأنظمة الغربية وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية خلف حكومة أقل ما توصف به هي كونها نازية.
وعلى الجانب الآخر، لم يكن دخول حزب الله على خط المواجهة مع إسرائيل في اليوم الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) أي علاقة بنصرة أهالي غزة أو إسناد المقاومة، وقد أشرنا إلى ذلك في وقت سابق وفي الأيام الأولى لحرب إسرائيل على سكان غزة؛ إنَّما كان هدف حزب الله هو استعراض العضلات العسكرية للحيلولة دون شن إسرائيل أو نزع فتيل حرب شاملة عليه بعد الانتهاء من حماس في غزة، واعترف بذلك ضمناً الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في أحد خطاباته قبل أشهر، ولهذا وجدنا، وبالرغم من الخسائر التي لحقت بعناصر حزب الله طوال 11 شهراً واغتيال الكثير من القادة في صفوفه، أنَّه حافظ على قواعد الاشتباك في حربه مع إسرائيل.
وفي ظل تفشي رائحة الموت والدمار، تأتي من بعيد صيحات مسؤولي الاتحاد الأوروبي وألمانيا وبريطانيا حول ما يجري في لبنان، إلا أنَّ تلك الأصوات الخالية من المواقف الجادَّة، لا تتجاوز كلمات النعي في عزاء لجماهير لبنان التي لا عزاء لها، وهي وضعت بين مطرقة إسرائيل وسندان حزب الله.
واللافت في مشهد الدراما السياسي في المنطقة والذي لم يكن مفاجئاً أبداً بالنسبة إلينا هو موقف ايران، التي يتحدث رئيسها مسعود بزيشكيان عن السلام، وأنَّ إيران مستعدة للعودة بالالتزام بالاتفاق النووي في الوقت الذي لا يتم الحديث في الغرب عن الاتفاق النووي، وأنَّ حزب الله غير قادر على مواجهة إسرائيل المدعومة غربياً لوحده، وتلا حديث الرئيس الإيراني تصريحات مساعده جواد ظريف بأن إيران ستدافع عن نفسها، وأنها مستعدة للتعاون مع الدول الأخرى لإيقاف حرب غزة، وكأن الدور وصل لها أي لإيران بعد حزب الله، وبعد أن باتت تستشف أنَّ مرحلة التهديدات البهلوانية بنسف إسرائيل والقضاء عليها قد انتهت، وأن وضع حزب الله العسكري لا يحسد عليه بعد تفجيرات البيجر واغتيال الصف الأول من قيادته، وتحولت كل جهود إيران لا للدخول في خط المواجهة العسكرية والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية وقادة حزب الله، بل لإيقاف الحرب في غزة، وعلى حزب الله الذي بات يدفع ثمناً باهظاً لقاء الدفاع عن هيمنة النفوذ القومي للجمهورية الإسلامية في المنطقة.
إقرأ أيضاً: عقدة ماكرون والإمبريالية الفرنسية
لقد حققت إسرائيل هدفها غير المعلن في غزة، وهو تأخير تحقيق تشكيل دولة فلسطينية مستقلة، وتحاول من خلال حربها على لبنان بحجة وجود حزب الله فرض هيمنتها العسكرية والسياسية في المنطقة، ويلاحظ أنَّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن راضية عن الأداء العسكري لدولة إسرائيل، وهذه المرة بشكل علني وواضح ودون أي نفاق سياسي أو وضع الرتوش على التصريحات، التي جاءت على لسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان, الذي قال "لا خطوط حمراء على استخدام الأسلحة الأميركية"، و"سنزود إسرائيل بكل ما تحتاجه من أسلحة"، وأكثر من ذلك ترسل الولايات المتحدة الأميركية المزيد من القوات الحربية إلى الشرق الأوسط كي تحافظ على انفراد إسرائيل واستهتارها بالمنطقة، وتحميها من أي حرب محتملة تشنها ايران عليها.
إنَّ إسرائيل تسعى لاستعادة مكانتها واعتبارها من خلال حربها على لبنان، وتحاول استرداد زمام المبادرة، وقوة الردع وتعيد تلميع صورة تفوقها العسكري والتكنلوجي في المنطقة، ويعني من الجانب الآخر استعادة (هيبة) بلطجة السياسة الأميركية في المنطقة عبر أداتها الشريرة والجهنمية التي تسمى إسرائيل.
إقرأ أيضاً: ما وراء قانون "مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي"
إنَّ ما حدث في غزة وما يحدث اليوم في لبنان، وما نتج من استقطابات دولية في المنطقة، وما يحدث من مسرحيات هزيلة وهزلية، وتساقط دموع التماسيح على سكان غزة واليوم على جماهير لبنان وما نسمعه من تأسيس دولة فلسطينية، ليس أكثر من مسعى كل طرف من الأطراف الدولية للبقاء في المعادلة السياسية، أو تغيير التوازنات في المعادلة السياسية من أجل النفوذ الجيو سياسي، والحقيقة الوحيدة التي أمامنا اليوم، هي فضح هذا النفاق والزيف الدولي بخصوص التباكي على سكان غزة وفلسطين وجماهير لبنان وكشف فحوى هذه الحرب الرجعية، وبلورة قطب جديد، يشكّل من الطبقة العاملة والجماهير التحررية للوقوف بوجه هذه الهمجية التي تقودها إسرائيل وداعميها في المنطقة، ويتغذى عليها أمثال الجمهورية الإسلامية وحزب الله وحثالة أحزاب وجماعات ومليشيات الإسلام السياسي.
التعليقات