يقولون إنَّ نظام حكم المحاصصة طرحه الحاكم المدني بول بريمر الذي عينته الولايات المتحدة الأميركية على رأس الحكومة العراقية المؤقتة بعد سقوط النظام السياسي السابق في العام 2003. وقد وافقت عليه الكتل السياسية جميعها، إضافة إلى المؤسسات الدينية ومباركة دول الجوار، وعلى أساسه تم تدوين الدستور العراقي الجديد.

حسنًا، هل سأل أحدهم بريمر لماذا لا يوجد نظام حكم المحاصصة في الدول الديمقراطية العريقة طالما أننا نخوض التجربة الديمقراطية التي كنا نحلم بها؟ لماذا نحن؟ هل توجد ديمقراطية بالمحاصصة في أي بلد ديمقراطي بالعالم؟ الجواب بالتأكيد لا. إما أن يكون القبول بهذا النظام السياسي الجديد دليلًا على عدم وعي الكتل السياسية لهذا المفهوم وقلة معرفتهم وضعف ثقافتهم، أو أنهم تعمدوا قبوله لغايات في أنفسهم. وفي كلتا الحالتين، تكون النتيجة دمارًا للمجتمع العراقي، والاحتمال الثاني طبعًا هو الأقرب للواقع، أي لغايات في أنفسهم.

الدليل على ذلك أن جميعهم بعد بضع سنين من تطبيق نظام المحاصصة أخذوا ينتقدون نظام حكم المحاصصة، وعرفوا أنه نظام سياسي ملغوم يمكن أن ينهي العراق في يوم من الأيام، ولكنهم أصروا على بقائه وعدم المساس به لأن مصير القوى السياسية ارتبط بالمحاصصة. فهي خدمتهم بشكل كبير وأضرت بالمجتمع العراقي بشكل كبير. وحتى كوردستان، التي يبدو للجميع أنها المستفيد الأول من هذا النظام السياسي، خسرت الكثير بسببه. فعندما تتعرض كوردستان للطعن والاعتداء من قبل دول الجوار يصمت الجميع وكأن كوردستان ليست جزءًا من العراق، لأن الكورد كما يعتقد الجميع يختلفون في قوميتهم وتركيبتهم عن الآخرين. وعندما تتصرف كوردستان بنجاح، يحاسبونها على قاعدة أنها تشكل جزءاً من العراق، ويجب ألا تتمادى في بناء ذاتها. وعندما تُعاقب بقطع الرواتب وغيرها من السلوكيات المؤذية تُنعت بالتمرد. فلا يعرفون ماذا يريدون؟ فمرة يسيرون عكس الديمقراطية لأنَّ الدستور يسمح للأغلبية بفرض ما تريد، ومرة يجعلون الديمقراطية مطية لأهدافهم الخاصة، وكيفما يشاؤون يقودون المقود.

هذه هي الغايات التي كانت بأنفسهم، ولكنهم تغافلوا أن كل ذلك هو تهديم لما تبقى من بلد اسمه العراق. فقد انهار النظام السياسي السابق وانهار معه نصف البلد، والآن وبعد أن ينهار النظام المحاصصاتي سينهار النصف الآخر، ولن تقوم بعدها للبلد قائمة.

أنا لا أنتقد كل ما يفعله المسؤولون في هذا البلد، فلو كانوا ملائكة سيفعلون نفس الشيء. العيب ليس فقط فيهم، وإنما العيب الأكبر في نظام المحاصصة الذي لا يقبل غير التخريب والتدمير. فهو نظام سياسي تتطلب استمراريته وجود الفساد الإداري والاجتماعي، السرقات، وجود الميليشيات، انتشار المخدرات، بروز قوة العشائر، انعدام الخدمات، ووجود شعب مخدر وكأن الناس سكارى. ومن شروط المحاصصة أيضًا أن تكون غالبية الناس تحت خط الفقر، ولا يمكن محاربة أي من هذه المتطلبات لأن كل واحدة منها ضرورة من ضرورات استمرار نظام المحاصصة. فزوال واحدة من هذه الظواهر سوف يؤثر سلبًا على بقاء النظام.

إقرأ أيضاً: كيف ستنتهي حرب لبنان؟

ولا يمكن لهم إلغاء أو تعديل نظام المحاصصة بعد أن امتدت جذوره إلى تركيبة الإنسان العراقي. فأي إلغاء لهذا النظام السياسي حاليًا يعني إلغاء ما تبقى من العراق. فمن يعتقد واهماً أن تغيير النظام السياسي هو الحل عليه أن يزيل من دماغه هذه الأوهام، بل حتى محاربة الظواهر السيئة المصاحبة لهذا النظام ضرب من الخيال.

الحقيقة الدامغة التي يجب الاعتراف بها هي أنَّ العقليات المثقفة والمفكرة قد انتهى دورها في نظام المحاصصة، ولم يعد لها آذان صاغية. وهذا هو ناقوس الخطر الأول الذي يجهله الناس عندما يتم عزل الثقافة عن المجتمع. أما الخطر التالي فهو المستقبل الغامض المبهم الذي لا يحمل في طياته بصيص أمل لحياة سعيدة.

الكل يبحث عن يومه ويترك المستقبل للمستقبل، ويكفيه أن الماضي حاضر معهم بكل سلبياته يسليه ويواسيه ويشغل باله.

إقرأ أيضاً: التحول الجنسي انحراف أم ثقافة

هذه دلائل أنجبها نظام حكم المحاصصة المقيت. من بكى بالأمس يضحك اليوم، ومن يضحك اليوم سيبكي غدًا. ومن بكى بالأمس ولم يضحك اليوم سيبقى باكيًا للأبد، لأنَّ المستقبل ليس له وجود في عقول القادة وعقول الناس، فقد مات قبل ولادته.

لذلك، فلا يصح إلقاء اللوم على المتصدين للمسؤولية اليوم عندما يعبثون ويسرقون، لأنَّ هذه الأموال المسروقة هي أملهم الوحيد للتشبث بالمستقبل لهم ولعوائلهم.

أتمنى ألا أكون على صواب، لأنه شيء محزن أن تكون نهاية المطاف خسارة كل شيء في بلد وشعب لا يستحق أن يعيش الحياة باكيًا متحسرًا على ما آلت إليه الأوضاع.