كان من المتوقع أن تتباهى إسرائيل بقتل قائد حركة حماس يحيى السنوار، وأن تفتخر بأنها أنجزت العملية بتخطيط وقدرة استخباراتية عالية المستوى، وأن تشيد بأجهزتها الاستخباراتية والأمنية والتجسسية المتطورة، كما حدث في عمليات اغتيال قادة حزب الله. لكن المفاجأة أن إسرائيل، بعكس التوقعات، جعلت رواية مقتل السنوار تبدو وكأنها لم تكن عملية مدبرة، بل حدثت بالصدفة، لا عن تخطيط مسبق، ومن السذاجة قبول مثل هذه الرواية. نعم، إنَّ اغتيال السنوار جاء عن تخطيط ومتابعة ورصد جوي وأرضي وجهود استخباراتية استثنائية كبيرة، وليس بالصدفة كما صرح المسؤولون الإسرائيليون. ولكن، لماذا ذهبت الرواية الإسرائيلية إلى سيناريو الصدفة؟
هناك سببان دفعا حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى طرح رواية الصدفة وتعميمها على وسائل الإعلام. السبب الأول يتعلق بالداخل الإسرائيلي، وهو خوف حكومة نتنياهو من استنفار الإعلام المحلي على قاعدة أن عملية اغتيال السنوار ستضع مصير الرهائن والمحتجزين في خانة المجهول، فيقع نتنياهو في مواجهة محرجة مع عوائل المحتجزين ومع المنظمات المدنية الداعمة لهم، إضافة إلى الإعلام المحلي، فتكون هناك أزمة سياسية كبيرة في ظرف عسكري وسياسي عصيب وحساس للغاية. لذلك، اختلقت رواية الصدفة كي لا يتم تهييج الوضع الداخلي وإيقاظ الرأي العام، لأنَّ الجميع في الداخل الإسرائيلي على اقتناع بأنَّ اغتيال السنوار يجب أن يكون مقروناً بتحرير الرهائن، لا بضياعهم.
أمَّا السبب الثاني، فهو يخص الوضع الإقليمي والدولي، حيث أنَّ الإعلان عن مقتل السنوار بعملية مخطط لها يعني أنَّ إسرائيل لا تترك مفاوضاً من حركة حماس للتفاوض معها حول الرهائن وحول إنهاء الحرب في غزة. بمعنى أدق، إسرائيل تفضل الحلول العسكرية على الحلول السلمية، وهذا الشيء يضع حكومة إسرائيل في مأزق كبير أمام الأصدقاء قبل الأعداء، وأمام دول الاعتدال العربي التي تأمل بحل الأزمة عن طريق المفاوضات. وللتذكير، حتى عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها، لتجنب الإحراج الدولي.
إضافة إلى ذلك، لا أستبعد أن الحكومة الإسرائيلية أرادت أن توحي، من خلال رواية الصدفة، بأنَّ انتصاراتها ليست جميعها وليدة التكنولوجيا والعلم والتخطيط، وأن للحظ والصدفة أحياناً دور مهم في الانتصارات. أرادت أن تظهر للعالم أن الحظ يخدمها، وتبعد فكرة المطاردة التي استمرت لمدة عام كامل ليحيى السنوار، فتقلل من دور التكنولوجيا بغض النظر عن الفارق التكنولوجي الكبير مع أعدائها، وتبرز شجاعة وبطولات مقاتليها في الميدان.
إقرأ أيضاً: تحت رحمة الدعاية والإعلام
هذا هو الواقع، ومن حق المنتصر أن يتفنن في طرح الروايات. الحرب تحولت في غزة وجنوب لبنان من مفهوم طرفين يتقاتلان إلى طرف يقاتل وطرف يموت. والسبب ليس الفارق التكنولوجي كما يُروج إعلامياً، بل الفارق العقلي. إنها حرب بين عقول تعتقد أن الإيمان مع السيوف والعصي يمكن أن يهزم عقولاً تتحكم بالفضاء. عقول لا تستمع إلى لغة المنطق والسلم والتعايش، وعقول تسرح وتمرح. إنها مشكلة عقول لا يمكن تغييرها.
لا بدَّ أن تنتهي هذه المهازل وتنتهي خدعة حب الشهادة والموت التي زرعوها في عقول الناس، وتطفأ نار هذه الحروب اللعينة. إلى متى يموت آلاف الأبرياء بسبب هذه العقول الغافلة، بينما موت القائد الذي جلب الموت للأبرياء يتصدر الصحف والتلفزيونات والفضائيات لأيام عديدة؟
إقرأ أيضاً: الثقافة الخاطئة
إسرائيل دشنت مفهوماً تاريخياً في عالم الحروب سيغير جميع الصراعات المستقبلية، وهو أن القائد يجب أن يُقتل قبل الجندي في ساحة المعركة، وليس القائد آخر من يموت كما كان معروفاً منذ القدم، منذ أن عرف الإنسان الحروب. هذه أكبر مفاجآت هذا الكون وأكبر مفاجآت التطور التكنولوجي التي صدمت جميع سكان الأرض، وخاصة قادة دول العالم وسياسييها، وبالذات الدول العظمى.
فمن غير الحكمة أن نمر على مثل هذه المتغيرات مرور الكرام ونعتبرها حدثاً طبيعياً.
التعليقات