في الأجواء التي أحاطت بالحملة الانتخابية في إقليم كوردستان، تصاعدت نبرة الخطابات واختلفت في مضمونها وأسلوب عرضها وطريقة سعيها لاستقطاب أصوات الناخبين. أصحاب الإرث النضالي (البارتيون) عرضوا بهدوء ووفق خطط مسبقة إنجازاتهم ومكاسبهم المتحققة، والتزموا بسياسة الاعتدال وضبط النفس، وتبنوا تطلعات الكوردستانيين واحتياجاتهم اليومية. أما الآخرون فقد اتجهوا نحو خطابات شعبوية تملؤها الكثير من الازدواجية والمتناقضات التي تضم أسلحة مسمومة ذات حدين، يمكن أن تجرحهم قبل أن تصيب غيرهم، وربما تبقيهم خارج التأثير السياسي وتُصعِّب عليهم التراجع عن مواقف معينة لاعتبارات سياسية أو مرحلية أو للحفاظ على ماء الوجه.
وبعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، ابتعد (البارتيون) بحزم عن كل ما يمكن أن يعكر صفو أمن الإقليم أو يستهدف تشويه سمعة العملية الانتخابية، وفي البيان الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية لحزبهم (الحزب الديمقراطي الكوردستاني) الذي عقد برئاسة الرئيس مسعود بارزاني، ركزوا على أولويات حماية المصالح القومية والوطنية العليا للكوردستانيين، والحفاظ على كيان الإقليم، وتشكيل حكومة موحدة وشاملة. كما أكدوا حماية حقوق وحريات شعب كوردستان وخدمة المواطنين، ودعوا إلى تصفير المشكلات وتقنين العمل السياسي والتفرغ لتعزيز الديمقراطية. وقد أدهشوا الجميع حينما أعلنوا عدم وجود "فيتو" على أي شخص أو جهة سياسية في تشكيل الحكومة المقبلة في إقليم كوردستان.
أما عند الآخرين فقد تم تجاوز الخطوط الحمر، وبدأ التشكيك في نزاهة مفوضية الانتخابات ودقة الأجهزة الإلكترونية وصحة البيانات ونسبة المشاركة، وظهر في فضاء التشويش حفنة من أشباه السياسيين أنصاف الإعلاميين وأصحاب الرأي المأجورين والمضللين، وهم يبدعون في خلط الأوراق وتزييف الحقائق وتحوير الوقائع لصالح نزوات ومغامرات شخصية وحزبية وسياسية، أو خدمة لأجندات غير واقعية على حساب رؤية الصورة الكبيرة الواضحة التي لا يمكن حجبها. واستغلوا وسائل الإعلام التقليدية ووسائل مواقع التواصل لترديد المصطلحات المضللة الغائمة بهدف قلب الطاولة وتجميل الهزائم، وتحويل المنبوذ إلى سياسي وبطل، أو في أقل تقدير تهييج العواطف لإشغال الجميع بمعارك جانبية وتضليل الذين يطرحون الأسئلة الجادة حول نتائج الانتخابات وتداعياتها ومآلات الأوضاع الكوردستانية ومستقبل العملية السياسية في الإقليم.
إقرأ أيضاً: لماذا لا يمكن أن يخسر البارتي؟
من تأمل ومراجعة ما حصل ومحاولة تفادي ما يمكن تفاديه، يمكن القول إنَّ الضجيج الإعلامي للازدواجيين لا طائل منه سياسياً، ولا يتعدى مجرد زوبعة في فنجان، لأنهم في أحسن تقدير لا يقولون سوى ربع الحقيقة التي تهدف إلى انتزاع مكاسب غير مشروعة لحساب جهات سياسية معينة، والتشويش على دور البارتي كقوة معتبرة ووازنة.
إقرأ أيضاً: أوراق البارتي وناطحو الصخور
الكوردستانيون بحاجة إلى التسليم بنتائج الانتخابات بعد المصادقة عليها والتعامل معها بروح المسؤولية ودفن الخلافات المفتعلة، ولا يجدون مبرراً واحداً في الإقدام على إثارة موضوعات قد حُسمت بالقانون، وبالوثائق والمستندات، وعززتها مصادقة الجهات الحكومية عليها، وبخاصة مشروع الحساب. ويرون غيوماً سوداء تتجمع في أفق المنطقة، ويتوقعون تغييرات في توازن القوى بين "الثيران الهائجة"، لذلك يدعون بشدة إلى حسن التصرف والتفاهم على القواسم المشتركة والأولويات المطلوبة، والابتعاد قدر المستطاع عن محاولة إمساك العملية السياسية من عنقها، وعدم محاصرة الحكومة بإبقاء باب البرلمان مقفلاً وإثارة الاحتكاكات والاستفزازات والحساسيات والمخاوف من التصريحات غير المسؤولة، وخلق العداوات مع البارتي والهروب الدائم نحو الأمام.
التعليقات