"ليس أقرب من غزة إلى غرب أوروبا طريقاً لشرقها ولكل جهات العالم القديم"
سيدي الرئيس فلاديمير بوتين،
يبدو أن العالم يتغير رغماً عن أنف الجميع، فهي سنة الحياة ولا شيء ثابتاً على الأرض، فالماء والهواء والرمال وحتى التراب أيضاً يتحرك، فالثبات هو صفة الجماد الميت في أرض لم تعرف الثبات يوماً، لكن الحال اليوم بدأ يتغير، فما يسمى بالولايات المتحدة تسعى إلى الانتقال بالأرض إلى عالم جديد تسود فيه ولا أحد سواها، وقد لا أكون مغالياً إن قلت إنها فحصت العالم على مدى عقود ووصلت إلى قناعة مطلقة أن بإمكانها أن تفعل ما تشاء دون أن يعترضها أحد، وقد كانت غزة النموذج الأكثر وقاحة عبر التاريخ ودائماً ظل الاتحاد السوفياتي والصين أزمتها الوحيدة، وبعد أن انتهت من الاتحاد السوفياتي سعت إلى تحويل اشتراكية الصين وشيوعيتها إلى رأسمالية الدولة على طريقة الرأس مال غير المغامر، وهو عادة ما يكون رأس مال وسيط يخدم الأكبر على حساب الأصغر ويجني الربح المضمون مكتفياً بالصورة دون المضمون وقابلاً بدوره ما دام مضموناً.
على يد ترامب تحاول الولايات المتحدة الانتقال إلى مرحلتها التي تريد، وهي إشعال العالم بالحروب والبقاء بعيدة، بمعنى إدارة الحروب في كل جهات الأرض لكي تتخلص من الجميع، فالضعيف يغيب والقوي منهك ولا تبقي الولايات المتحدة لذاتها إلا دول أميركا اللاتينية التي لا تفكر بمواجهة دولة مثل الولايات المتحدة وبعض دول أميركا الشمالية الراضية عن سلامها.
ثلاث أزمات أمام الولايات المتحدة الأولى؛ الشرق الأوسط، وهي تسعى اليوم لترتيب أوراقها هناك عبر أداتها الأهم دولة الاحتلال في فلسطين لكي تمنع أياً من العرب أو المسلمين من الوحدة، وقد أسست لذلك طويلاً منذ الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها؛ والثانية هي الصين، وقد اشتغلت على تربة مناسبة للانقضاض عليها بعد أن أشغلتها بإزدهار اقتصاد خادم لاقتصادها واقتصاد غيرها وهو اقتصاد تكميلي في معظمه إلى جانب أن الكثرة السكانية ليست بالضرورة مصدر قوة وهي الآن أمام أزمة بحر الصين الجنوبي مع الفليبين وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام وبروناي الصغير قوة القوية مالاً وتايوان المنشقة عن الأم والمعتدة بالحماية الأميركية التي ستبدأ أميركا بالاقتراب من رفعها لتشجيع الصين على الاقتراب؛ وتبقى أفغانستان وباكستان وقضية مسلمي الصين التي غذتها أميركا جيداً وترغب الهند بشكل أو بآخر بإضعاف الصين لتحل مكانها.
بقيت بلادكم كأخطر جبهة حقيقية على مشروع الإمبراطورية الأميركية الراغبة بالانتقال إلى مرحلة تحطيم النظام العالمي القائم والانتقال به إلى عالم اقتصاد المعرفة بقيادتها كسيدة لإمبريالية المعرفة المسلحة والتي تزاوج اليوم بين المال والمعرفة لصالح سلاح السطو بالمعرفة لاستعادة المال المنثور في جيوب البشر عبر إسكات عقولهم واستنهاض بطونهم أو التخلص منهم بانتقائية تشبه انتقائية هتلر ولذا فالخطر على الكون أكبر بكثير مما يتخيل البعض.
الأبواب مفتوحة لكم اليوم، فما بدأته أميركا بايدن لم يفلح في إضعاف بلادكم ولا في عزلها فقد جاءت إليكم إيران وكوريا الشمالية وغازلتكم الهند ولا زالت وتدرك الصين حاجتها لكم وهي تدرك أن هذه الحاجة باتت تتصاعد فهل تقترب منكم أم تنحني لأميركا ترامب لكن غلطة الشاطر بألف وهو ما أعتقده بتفكير ترامب بعقل إيلون ماسك أي المعرفة مع القوة "المال والعنف المسلح بالمعرفة ناراً" فكما تريد أميركا حرباً في آسيا تضعف من خلالها الصين تريد أيضاً حرباً في أوروبا تضعف من خلالها الجميع وفي المقدمة روسيا وتعود لتسطو على أوروبا ولكن هذه المرة دون قوة الشراكة بل بضعف المنهك من الحروب ويحلم بمارشال أميركي جديد يخرجه من أزمته.
إقرأ أيضاً: هل لا يزال الانتصار ممكنًا؟
يصحو اليوم في أوروبا الممزقة اليمين على ذاته كما هو الحال في الانتخابات التشريعية في فرنسا، وكذا اليوم في ألمانيا، وصعود اليمين القومي في عديد الدول وبرعاية أميركا في كل مكان طمعاً بتدمير هذه البلدان معاً فهو من جانب يعلن انسحابه من دعم أوكرانيا ومن جانب آخر يشجع تدخلاً عسكرياً أوروبياً ويكتفي بالسطو على خيرات أوكرانيا مبكراً ويقدم نفسه لكم كصانع سلام يشجع غيره للحرب عليكم علماً بأن عديداً من قوى اليمين القومي وخصوصاً في ألمانيا يرون العكس ويرون في بلادكم حليفاً، إن أمكن إيجاد الوسيلة لقطع الطريق على أميركا ترامب وخلق تحالف فوري مع قوى أوروبا الصاعدة وتحويل مسارها لخدمة أوروبا شرقها وغربها، وإذا ما أمكن لهذا التحالف أن يلفت انتباه الصين والهند، فإن مؤامرة ماسك الترامبي لن تجد طريقها للحياة وسيتحول العالم من إمبراطورية أميركا إلى إمبراطورية ناسه وبدل اللجوء إلى نظرية المليار الذهبي يمكن أن نصل إلى نظرية ذهب البشر كلما ازدادت الأرض غنى بناسها فالفرصة اليوم متاحة يا سيدي فلا تلتفت إلى ما يريد لك ترامب أن تلتفت إليه ويكفي أن تراه يغازلكم من جهة ويدعو أوروبا لحماية أوكرانيا ضد بلادكم ويقدم أوراق سطو على خيراتها قبل كل شيء فمتى يمكننا أن نصل إلى نظرية الحياة القائلة بأن الذهب الحقيقي هم البشر وأن حياة الروح أسمى وأرقى من حياة دولار أميركا الذي تحول إلى ورق بلا قيمة إلا قيمة السطو على يد نيكسون ويسعى ليتحول إلى نقد الوهم على يد عملات ماسك وترامب الإلكترونية.
حتى الآن لا زال اليمين غير قادر على السيطرة وحده على أطراف أوروبا، وهو مجبر على التحالف مع سواه، ولذا فإن الفرص أمام الوسط أو الاشتراكيين لرد الصاع صاعين لترامب لا زالت قائمة، وهي الأداة التي يمكن اللعب عليها مع قوى الوسط ويسار الوسط في أوروبا خصوصاً أن ترامب يلعب الآن لعبته على المكشوف فهو من جهة يتفاوض مع روسيا نيابة عن أوكرانيا وبتغييب لأوروبا مع تلميح بأنه سيتخلى وبالمقابل يطلب اتفاقية معادن بعد أن تنازل عن فكرة 50 بالمئة من أوكرانيا ثم سيسمح لأوروبا بالغرق في حرب مع بلادكم سيكون ثمنها شراء المزيد من السلاح الأميركي وإنفاق أكثر ودمار أكثر وسيشكل ذلك إرهاقاً للاقتصاد الروسي والأوروبي معاً وسيكون المنتصر الوحيد هو من لم يخسر شيئاً أي الولايات المتحدة.
إن أخطر ما يعلن الآن هي رغبة أميركا ترامب بالسطو على غزة بوابة للنار من شرق المتوسط على غربه فليس لغزة قيمة حقيقة بعد غازها الذي يمكن للولايات المتحدة أن تسطو عليه دون أن تسطو على الأرض بألف شركة وشركة ووسيلة ووسيلة وكذا قناة بن غوريون التي يمكن الاستغناء عنها بإضعاف مصر والسطو على القناة كما يحاول السطو على قناة بنما أو معادن أوكرانيا، ولذا فإن غزة بوابة غرب المتوسط الأخطر عند الضرورة فعادة ما يختار اللص أقرب الشبابيك وأسهلها للدخول إلى هدفه وليس أقرب من غزة إلى غرب أوروبا طريقاً لشرقها ولكل جهات العالم القديم.
إقرأ أيضاً: أيها الصامتون انتظروا دوركم
إنَّ عديداً من دول العالم تجد نفسها اليوم عرضة للابتزاز من قبل هؤلاء اللصوص بعد أن جربوا صمت العالم على غزة والسودان دون أن يحرك أحد ساكناً وتذكر جيداً من امتنع عن التصويت غير بلادكم ضد قرار مجلس الأمن الكاذب بشأن غزة في مجلس الأمن والمقدم من الولايات المتحدة ولذا فإن عدد الغاضبين من سياسة السطو الترامبي يتزايد فإلى جانب أوروبا المغدورة هناك كندا والمكسيك وبنما وتركيا والسعودية ومصر وحتى أوكرانيا نفسها ولذا فإن مشروع سلام روسي مع أوروبا تجاه أوكرانيا بدعم تركي سيفشل مخططات ترامب ويصنع قطباً خطيراً يخرس أحلام أسياد ترامب الدمية خصوصاً إذا ما انضم إلى هذا الحلف من سيخشون على بلادهم ومصالحهم في البحور الأبيض والأحمر والأسود.
سيدي الرئيس فلاديمير بوتين المحترم،
لقد كان لبلادكم في القرن الفائت شرف ردع أحلام الإمبراطورية الرأسمالية الأميركية وأعتقد أن شرف ردع هذه الأحلام في القرن الحالي تبدو وكأنها تقع على عاتق بلادكم أيضاً ولذا أريد تذكيركم بالقول الأذكى للرجل الأغبى في التاريخ حين قال دونالد ترامب في خطاب القسم "إن الحروب التي تنتصر بها هي تلك الحروب التي لا تخوضها" فقد ترك بلادكم وتركيا تقتتلان في سوريا وسطى هو على نفطها وفعل ذلك في ليبيا أيضاً وفي أماكن عدة ولذا فإنني أعتقد أن التفكير بهذا القول يثبت أن ترامب مجرد بوق غبي لخطط أذكى يصوغها اليوم سادة المشروع الأوقح في التاريخ وهم ما أسميهم "إمبرياليو المعرفة".
التعليقات