تيار الوسط أو ( الخط الثالث )
منذ إنطلاقة الثورة الكردية عام 1961 بقيادة الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني، إستأثر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي أنتخب البارزاني رئيسا له إثر عودته من المنفى السوفييتي، لم ينشأ أي حزب منافس لقائد الثورة والحزب لعدة سنوات بعد نشوء الثورة التحررية. فقد إستطاع البارزاني بحنكته القيادية وقدرته الثورية وموروثه النضالي الذي ورثه من آبائه وأجداده من زعامات الثورات الكردية، أن يفرض شخصيته الريادية على الثورة والحزب من دون منافسة أحد، ونتيجة للدعم الشعبي الواسع للحركة التحررية وقيادة البارزاني للثورة، تمكن هذا الزعيم أن يحافظ على وحدة الصف الكردي قبل أن يعلن جلال طالباني وإبراهيم أحمد عام 1964 خروجهما من قيادة الحزب وإنشقاقهما عن الثورة بتشكيل جناح سمي في تلك الفترة بـ quot; جناح المكتب السياسي quot;.
ولكن بارزاني تمكن بعد صدور بيان 11 آذار وتوقيع إتفاقية مع حكومة البعث بقيادة أحمد حسن البكر من القضاء على ذلك الجناح، حيث إنزوى قائدا الجناح لفترة خارج العراق، قبل أن يعود طالباني الى تشكيل الإتحاد الوطني الكردستاني عام 1975 بعد إنهيار ثورة البارزاني وإعلان ثورة جديدة بقيادته في جبال كردستان.
ولم يكن الإتحاد الوطني هو القوة الوحيدة على الساحة النضالية في كردستان عند إعلان الثورة الجديدة، بل شاركت الحركة الإشتراكية الكردستانية بزعامة الراحل صالح اليوسفي بقيادة الثورة في بداياتها،وأرسلت أولى مفارزها المسلحة من البيشمركة الى جبال كردستان، وإغتيل اليوسفي على يد المخابرات العراقية عام 1981 بعد إنكشاف قيادته لتلك الحركة..
وفي تلك الفترة أيضا من بدايات الثورة أعاد نجلي البارزاني أدريس ومسعود تنظيم صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني، وإرسلوا بيشمركتهم الى جبال كردستان ليشاركوا في الثورة الجديدة.وبالمقابل كان الدكتور محمود عثمان وعدد من رفاقه قد شكلوا اللجنة التحضيرية للحزب الديمقراطي الكردستاني بنفس الهدف، ومن اللافت أن الحكومة العراقية فاوضت قيادات هذه اللجنة في نهاية السبعينات من أجل حل القضية الكردية ولكن من دون نتيجة تذكر!..
مع وجود هذه الأحزاب المختلفة بتوجهاتها وآيديولوجياتها على الساحة الكردستانية، نشأت حالة صحية في مسيرة النضال السياسي والقومي للشعب الكردي، وكان بالإمكان أن تتحول تلك الأحزاب والقوى الكردستانية الى جبهة وطنية موحدة لقيادة الثورة ضد النظام الدكتاتوري الذي أخذته النشوة بإنتصاره على الثورة الكردية السابقة والقضاء عليها في آذار 1975، ولكن الصراعات والمنافسات الحادة بدأت تطل برؤوسها في وقت مبكر داخل قيادات الثورة الجديدة، فكانت مأساة هكاري التي قتل فيها عدد كبير من البيشمركة الأوائل الذين رفعوا السلاح في وقت كانت جبال كردستان لا تضم سوى مفارز صغيرة جدا، ثم إستتبعها إنشقاق الحركة الإشتراكية الكردستانية عن الإتحاد الوطني وتحوله الى الحزب الإِشتراكي الكردستاني، تلاها إنهيار اللجنة التحضيرية للحزب الديمقراطي الكردستاني وإنضمام قياداته الى الحزب الإشتراكي الجديد.
ولم تمض سوى فترة قليلة جدا تزايدت خلالها نشاطات قوات البيشمركة الكردية ضد النظام الدكتاتوري، ووصلت عملياتها الى قلب المدن الكبرى في كردستان، مما أرعب النظام العراقي من تنامي قوة البيشمركة، حتى حاول النظام من خلال أساليبه الإستخبارية من بث الفرقة والشقاق بين صفوف الأحزاب والقوى الثورية المتواجدة على ساحة النضال الكردي، ونجح الى حد ما في إثارة حرب دامية داخل الساحة الكردستانية إستمرت لعدة أعوام قبل أن تتمكن إيران من تحقيق مصالحة بين الأحزاب المتصارعة توجتها بمصالحة ناجحة بين الحزبين الرئيسيين الإتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني في بدايات عام 1986، مما مهد لتشكيل الجبهة الكردستانية التي ضمت ثمانية أحزاب كردستانية قادت فيما بعد إنتفاضة الشعب الكردي عام 1991 لتحرير كردستان، ثم تشكيل البرلمان المحلي والحكومة الإقليمية..
بعد تحرير كردستان تسلمت الجبهة الكردستانية بأحزابها الثمانية إدارة شؤون إقليم كردستان الى حين تنظيم أول إنتخابات برلمانية عام 1992 والذي إنبثقت عنه حكومة الإقليم.
مما لا شك فيه أن القتال الدامي الذي شهدته جبال كردستان حتى عام 1986 كان الهدف منه هو إستئثار أحد الحزبين الكرديين بقيادة ثورة الشعب الكردي، ولكن بعد سقوط المئات من القتلى في تلك الحرب العبثية، إستجاب الحزبان الى نداءات المصالحة من إيران وتوصلا الى نوع من التحالف النضالي وتوحيد صفوفها لمواجهة النظام الدكتاتوري، حيث بدأت إنتصارات إيران على جبهات القتال تتراجع بشكل لافت، خصوصا بعد تحرير الفاو من قبل القوات العراقية.
وبعد تحرير كردستان والشروع بإجراء أول إنتخابات برلمانية في تاريخ الشعب الكردي كانت فكرة السيطرة على الحكم والتفرد بقيادة الشعب ما زالت تتحكم بقيادة الحزبين، لذلك شهدت تلك الإنتخابات عمليات تزوير واسعة النطاق لتغليب النتائج لصالح أحدهما، ولكن الظروف التي كانت سائدة في تلك الفترة والخوف من فشل تجربة الإدارة الذاتية وتأثيرها على الدعم الدولي للشعب الكردي، أدى بالحزبين الى إتفاق يقضي بتقاسم السلطة بينهما مناصفة،حيث تم تقسيم مقاعد البرلمان وحقائب الوزارات الحكومية بينهما بالتساوي.
وبعد تشكيلهما للبرلمان والحكومة، تفرغ الحزبان الى محاربة الأحزاب الكردستانية الأخرى بهدف إضعافها ومن ثم القضاء عليها، وكان الهدف من وراء تلك المحاولات هو الحيلولة دون نشوء قوة ثالثة منافسة لهما في كردستان.خصوصا وأنه كانت هناك رغبة شعبية لبروز تيار جديد أو خط ثالث يكون بديلا عن الحزبين المعروفين بخلافاتهما القديمة والمستديمة، فقد كانت هناك مخاوف حقيقية من تصاعد وتيرة الخلافات والصراعات الحزبية بين الحزبين الحاكمين،خصوصا إستعادة تلك الصفحة الأليمة من الصراعات الدامية بين الحزبين التي شهدتها جبال كردستان قبل سنوات، وأثبتت الفترة اللاحقة ودخول الحزبين في قتال دام جديد داخل إقليم كردستان المتحرر صحة تلك المخاوف.
ولكن الحزبان اللذان تذوقا حلاوة السلطة وخيراتها، خصوصا الموارد الجمركية التي كانت في تصاعد مستمر بسبب الحصار الإقتصادي المفروض على العراق جراء إحتلاله للكويت، وفتح معبر إيراهيم الخليل على الحدود العراقية التركية أمام مرور قوافل المواد الغذائية والإستهلاكية الى العراق، وإمكانية الإستفادة من تلك الموارد لشراء الولاءات وكسب المؤيدين، دفع بالحزبين الى بذل كل الجهود الممكنة لإضعاف الأمل بنشوء ذلك التيار أو الخط الثالث المنافس لهما.
فبدأت الضغوطات السياسية والمادية تزداد على الأحزاب الصغيرة بإستخدام العامل الإقتصادي، ففي البداية إنهار الحزب الإشتراكي الكردستاني الذي كان يطرح نفسه كتيار ثالث،وتوزعت قياداته وكوادره على الحزبين الحاكمين،تلا ذلك وقوع مصادمات عسكرية بين الإتحاد الوطني الكردستاني والحركة الإسلامية الكردستانية، إنتهت بإضعاف الحركة وإبعادها عن السلطة، ثم تداعي صفوفها بسبب الإنشقاقات المتكررة فيها، وهي إنشقاقات حولتها أخيرا الى حركة هامشية صغيرة جدا، بعد أن كانت أحد أبرز الحركات والأحزاب الإسلامية في المنطقة.
إنفرد الحزبان بعد إضعاف وتهميش الأحزاب الكردستانية الأخرى بقيادة وإدارة شؤون الإقليم لحد يومنا هذا، وكانت كل المحاولات اللاحقة التي تبذل من قبل أحزاب صغيرة أخرى للتحالف والتوحد،أو حتى جهودها لتشكيل جبهات سياسية بإمكانها أن تشكل قوة معارضة سياسية ديمقراطية وليس قوة منافسة للحزبين تبوء بالفشل نتيجة ضغوطات الحزبين الحاكمين جراء إستئثارهما بموارد الإقليم الجمركية في السابق، والحصة الكردية المقررة في ميزانية الدولة العراقية لاحقا، فقد نجح الحزبان دائما في إستخدام تلك الموارد لتقوية نفوذهما ومحاربة الأحزاب الأخرى ومنعها من تشكيل جبهة معارضة سياسية حقيقية.
قبل فترة إلتقيت قادة أحد الأحزاب الكردية الصغيرة، وتناقشنا حول الوضع السياسي العام، سمعت منه إنتقادات شديدة ضد الحزبين الحاكمين وتذمره من الضغوطات التي يمارسانها على الأحزاب الصغيرة بقصد إضعافها.. فقلت لهquot; أنت تقود حزبا يساريا، لماذا لا تبادر الى جمع هذا الكم الهائل من الأحزاب والحركات والتنظيمات اليسارية الصغيرة في جبهة يسارية واحدة، وتتخلص من الإحتماء تحت عباءة أحد هذين الحزبين؟. فأجابنيquot; ومن أين أحصل على الإمكانيات لإدارة هذه الجبهة والحزبان يمسكان برقابنا من الناحية الماديةquot;.وأنهى حديثه بالقولquot; إذا أقدمت غدا على أي خطوة بهذا الإتجاه، ستوقف حكومة الإقليم صرف ميزانية حزبي، فلن يبق معي حتى حارس بابي؟!!.
اليوم كردستان مقبلة على تغييرات سياسية كبيرة مع إقتراب موعد الإنتخابات البرلمانية القادمة، حيث هناك قوائم جديدة تحاول هذه المرة أن تنافس الحزبين الرئيسيين، ومن أقوى الشخصيات التي أعلنت أنها ستتقدم بقائمتها المستقلة للإنتخابات هو السيد نوشيروان مصطفى النائب السابق لزعيم الإتحاد الوطني جلال طالباني، ويبدو أن نزول السيد نوشيروان بقائمته المستقلة يثير الكثير من الخوف والهلع في صفوف قيادات الحزبين، فالرجل يمتلك خلفية نضالية مشرفة،وهو أحد قادة الثورة الجديدة، ويتمتع بشعبية كبيرة بإعتباره أحد المسؤولين القلائل الذين لم يتورطوا في الفساد الضارب بكردستان، ويبدو أن السيد نوشيروان ليس مستعجلا جدا لمنافسة الحزبين في الحكم، فقد أكد لي خلال لقائي معه قبل عدة أيام عندما سألته عن حظوظ قائمته لتحقيق فوز كبير مع وجود كل هذه الأموال الهائلة بيد الحزبين وإستئثارهما بالسلطة التي تغري الكثيرين وتكسب ذمم آخرين، فأجابني قائلاquot; عندما بدأنا ثورة شعبنا الجديدة في جبال كردستان عام 1975 لم يكن عددنا يتجاوز أصابع اليدين، واليوم نحن نعتبر أنفسنا مقدمين على ثورة أخرى، سنبدأ بها دون أن نهتم بعدد مقاعد البرلمان التي سنكسبه، فلسنا مستعجلين، ولكننا سنواصل نضالنا السياسي من أجل تحقيق أماني شعبناquot;.
صدق الرجل، ولكن السؤال هوquot; هل أن الشعب الكردي أصبح اليوم في مستوى من الوعي الإنتخابي ليدرك ثمن صوته الإنتخابي ولمن سيعطيه، أم أن الحزبين سيتمكنان مرة أخرى من إستخدام إمكانياتهما الهائلة لمنع بروز القوة الثالثة، وهي الأمل الوحيد للخروج من الوضع السياسي المعوج، والتخلص من آفة الفساد المستشري في أوصال القيادة الكردية في كردستان؟
شيرزاد شيخاني
التعليقات