لعل أسوأ ما في قصة quot;خلية حزب الله في مصرquot; هو أن الخوض في تفاصيلها قد يُصور ـ بدافع الابتزاز والإرهاب الفكري ـ وكأنه دفاع عن نظام حاكم شائخ، وشخصياً لا أراه رشيداً ولا مقنعاً بما يكفي للرهان عليه، لكن شأن مثيلاتها من القضايا الملتبسة تختلط فيها الأوراق، ويُضفي فيها البعض على شخص السيد حسن نصرالله هالة من القداسة الخرافية، خاصة بعد انتشار البروباغندا الإعلامية بأن حزبه انتصر على إسرائيل في حرب 2006، وهذا بالطبع غير صحيح، بالعكس فقد تكبد اللبنانيون ثمناً فادحاً لهذه المغامرة، والتي أفضت إلى وضع جيوإستراتيجي أسوأ مما كانت عليه الأمور قبل الحرب، كما أن لجنة quot;فينوغرادquot; الشهيرة لم تكن تتحرى أسباب هزيمة الجيش الإسرائيلي، بل ناقشت عدم تحقيقه الحسم الكافي.
والدتي التي تقف على عتبات السبعين ـ أمدّ الله في عمرها ـ واحدة من ملايين المصريين المعجبين بنصرالله، لكنني رصدت خلال الأيام الماضية، عقب الإعلان عن توقيف هذه الخلية، وجدتها مصدومة كمن خذلها حبيب منحته ثقتها خاصة بعد أن اعترف الرجل على الملأ بأن عناصر من الحزب بالفعل أعضاء في تلك الخلية، وبرر الأمر بتقديم الدعم اللوجيستي للمقاومة الفلسطينية في غزة، في إشارة لحركة حماس.
ورغم خبرة السيد نصرالله السياسية والحركية الطويلة فقد تصرف انطلاقاً من خطيئة فكرية تقليدية، يرى مقترفوها أن quot;نُبل الهدف يبرر الوسيلةquot;، بمعنى أن مساعدة حركة حماس ـ وهي مجرد جزء من الشعب الفلسطيني ولا تحظى بإجماعه ـ بمتزويدها بالأسلحة، يبرر اللعب بنيران تهريب السلاح من خلف ظهر دولة مركزية كمصر، ويمنحه الحق بالعمل السري، وتجاوز القوانين المعمول بها في شتى أنحاء العالم، والتي تحظر تهريب الأسلحة، ولو رأت مصر أن السلاح سيفيد في الحالة الفلسطينية المنقسمة، فضلاً عن عدم التكافؤ مع آلة الحرب الإسرائيلية، لجعلت من غزة أكبر مخزن للسلاح في المنطقة.
خسر نصرالله كثيراً حين فشل في قراءة quot;الكود النفسيquot; للمصريين، وهنا أقطع بأن عدد مريديه في مصر أكبر من عددهم في لبنان لأسباب تتعلق بالقنبلة السكانية، أما أول ملامح هذا quot;الكود النفسيquot; فهو أن المصريين لا يثقون عادة بالسلطة الحاكمة، ربما نتيجة تراكم خبرات مريرة مع محتلين من كل نوع، ولكن حين يتعلق الأمر بـquot;الدولة المصريةquot; يتحول الأمر ليجتمعوا على قلب رجل واحد، فالدولة ثابت من ثوابت الشعوب التي نشأت على ضفاف الأنهار، أما النظام فهو متغير، ومجرد محطة في تاريخ الأمم، ولا أتصور أن السيد نصرالله لم يستوعب هذا الأمر وهو الإستراتيجي المسيّس بالفطرة والخبرة، لكن ربما تحت تأثير نشوة الإحساس المفرط بالذات، والتضخيم الإعلامي المفرط لصورته، جعل الرجل يتصرف خارج سياق اللياقة ومنطق رجل الدولة، بل يزهو بالتهمة وكأنما أرسل كوادره في بعثة دراسية، أو لقضاء عطلة على ضفاف النيل، ولم يرسلهم ليتجاوزوا حسابات دولة كبرى ذات سيادة، واختراق قوانينها وتهريب الأسلحة عبر حدودها، وممارسة العمل السري على أراضيها، وفي بقعة بالغة الحساسية وهي سيناء.
خسر نصرالله الملايين من مريديه بإطلالة تلفزيونية واحدة، فلو كان قد نفى التهمة لفتح باباً للجدل حول مدى جدية تلك الاتهامات التي ساقتها القاهرة في هذه القضية، لكنه وبثقة تشبه الفجاجة ظهر مؤكدا أن الموقوفين هم من كوادر الحزب، وأنهم كانوا يسعون لتقديم الدعم اللوجيستي للمقاومة الفلسطينية، وهذا سخف لا يمكن لأي دولة في العالم أن تتفهمه لأنه يمس سيادتها وأمنها القومي على نحو صريح.
خسر نصرالله بدعوة المصريين للعصيان الشعبي، وخسر أكثر بتحريضه للجيش على الانقلاب، فمثل هذه المسائل ليست في وارد الاختلاف بين المصريين، الذين قد يلتهمون بعضهم البعض، لكنهم حساسون للغاية تجاه تدخل quot;الغرباءquot; بشؤونهم، لاسيما في أمور تتعلق بالمؤسسات الوطنية كالجيش والأمن القومي، وهنا لن تجد معارضاً في مصر، اللهم إلا بعض شذاذ الأفاق ممن يدخل أمرهم في نطاق اختصاص الطب النفسي
وبالطبع هناك quot;مقبلات سخيفةquot; اكتنفت تفاصيل هذه القضية، كتهمة نشر التشيع في مصر، لأن المصريين تحديداً هم أكثر أهل السنة تصالحاً مع التشيع، فهناك ظلال شيعية لا يمكن تجاهلها في الوجدان الجمعي للمصريين فهم يهيمون بآل البيت، ولا يجدون أي غضاضة في زيارة القبور والتبرك بالأضرحة، والاحتفال بعاشوراء وغير ذلك من المظاهر، وبالطبع فكل هذا استقر في وجدانهم منذ عهد الدولة الفاطمية، وبالتالي فإن الأزمة الراهنة لا تتعلق بالمذهبية، قدر ارتباطها بحسابات سياسية معقدة، كما أن عدة أطراف إقليمية تلعب فيها أدواراً غير بريئة.
باختصار خسر السيد نصرالله مكانته الأسطورية في نفوس الملايين، ومنح خصومه فرصة هائلة لشيطنته وتصويره كمجرد quot;بندقية للإيجارquot;، ولو كنت مكانه لبادرت بالاعتذار للشعب المصري، والتعهد بعدم تكرار هذه الخطيئة، وساعتها أتوقع أن تنتهي القضية ويسدل عليها الستار، لكن قاتل الله الكبر والمكابرة والكبرياء التي تقف حائلاً دون عودة المرء لجادة الصواب، باعتبار أن الحكمة ضالة المؤمن.
[email protected]