تخيلوا معي هذا السيناريو الافتراضي، الذي لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع أبداً، ما لم يتمتع صنّاع القرار في مصر بقدر هائل من الشجاعة والخيال السياسي والحيوية الذهنية التي تليق بدور بلد محوري مثل مصر، خاصة حين يتعلق الأمر بمصالحها الإستراتيجية التي لا تحتمل التمييع، فالسودان حالياً أقرب إلى التقسيم من أي وقت مضى، وتؤكد كل المؤشرات أن الجنوبيين سوف يختارون الانفصال في استفتاء عام 2011، وليس هناك أي سبيل لمنع ذلك سوى أن يرأس السودان قائد جنوبي، فهذا الخيار وحده سيشكل تحولاَ جذرياً في الموقف الجنوبي المثقل بمرارات تاريخية حيال من يصفونهم بتعبير quot;الجلابةquot; في الخرطوم، وهو مصطلح له خلفيات تاريخية تتعلق بتقاليد حقبة quot;تجارة الرقيقquot;، ولا يتسع المقام لتفصيلها.
مرة أخرى تعالوا نتخيل ـ وكل المعجزات بدأت بخيال ـ أن مؤسسات مصر الدبلوماسية والأمنية وغيرها من الأجهزة أبرمت اتفاقا مع quot;سلفا كيرquot; حاكم الجنوب، ونخبة من كبار الجنرالات وقادة أجهزة الأمن هناك على ترتيب الأوضاع في السودان، في حال غياب البشير لسبب أو آخر، وكيف يمكن أن تمضي الأمور على نحو آمن، فمستقبل السودان أهم من مستقبل البشير أو غيره، لأن الأوطان أبقى من الأشخاص، خاصة حين يصبحوا عبئاً عليها، وسبباً في أزماتها الداخلية والخارجية كما هو حال البشير الذي أحسب أنه استنفذ كل فرصه في الداخل والخارج، وصار عبئاً على الشعب السوداني بل ومحيطه الإقليمي برمته .
فالبشير شأن غيره من الطغاة اختطف السودان، وأصر على أن يحوله إلى رهينة، وأصبح سبباً أساسياً في أزمة السودان مع قطاعات عريضة من أبنائه وجيرانه بل والعالم، ولم يعد جزءاً من الحل، فأى حل جاد لابد وأن يبدأ بإزاحته، وأتصور أن مصلحة السودان وأبنائه وكل جيرانه، تكمن في إقصاء هذا الرجل عن الحكم، لأن الأزمة الراهنة لا يمكن حلها ومحاصرة تداعياتها في ظل استمراره كحاكم مأزوم تلاحقه قرارات المحكمة الجنائية، ويرى أن مجرد تحركه بطائرته عبر هذه العاصمة أو تلك هو النصر المبين، ولتذهب مصالح البلاد إلى الجحيم، مادام quot;فخامتهquot; متربعاً على سدة الحكم، ويجد من يبرر تصرفاته .
ونعود للسيناريو المفترض، فما أن تحط طائرة البشير على أرض مطار القاهرة حتى تقله سيارة إلى جهة ما حيث يلتقيه فيها مسؤول أمني كبير، لكن دون مستوى الرئيس، ليخيره بين أمرين: الإقامة في الفيللا الفاخرة التي كان يقطنها الرئيس السوداني السابق جعفر نميري بشارع العروبة في القاهرة، أو إذا كان يفضل التوجه إلى لاهاي ليواجه مصيره المحتوم حتى يحاكم على الإتهامات الفظيعة بالتورط في جرائم حرب أودت بحياة مئات المدنيين من أهالي إقليم دارفور المنكوب والمهمش، منذ أن وصل البشير إلى السلطة على ظهر دبابة في الانقلاب العسكري المشؤوم .
بالطبع يبدو هذا المشهد درامياً، وربما يراه البعض غير أخلاقي، لكن هذه هي السياسة، فهي لعبة المصالح ولا مكان فيها للمشاعر الشخصية، فالشهامة والفزعة والكرم كلها أمور طيبة على صعيد السلوك بين الأفراد، لكن حين يتعلق الأمر بمصالح الدول ومستقبل الشعوب، تتغير قواعد اللعبة جذرياً، وهذا ما لا يرغب العربان ـ حكاماً ومحكومين ـ في استيعابه، فمثلاً تراهم يصفون سلوك الشعب الأميركي بأنه ودود وأخلاقي، غير أنهم لا يدركون لماذا تتصرف الإدارات الأميركية المتعاقبة على نحو براغماتي لا يقيم وزناً لهذه المنظومة الأخلاقية، فالدول العظمى ليست مؤسسات خيرية، بل كيانات منوطة بالدفاع عن مصالح ملايين البشر، وهكذا تصرفت دائماً كافة الإمبراطوريات الكبرى على مر العصور والدهور .
وحتى وفقاً للحسابات الأخلاقية فلماذا لا يتجرع البشير من ذات الكأس التي طالما أذاقها لجميع حلفائه، بغض النظر عن تقويم طبيعة هذه التحالفات، فالرجل الذي قفز على السلطة عبر انقلاب عسكري وبضوء أخضر من مصر، لكنه لم يلبث أن انقلب عليها وتورط نظامه في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، بعد أن تحالف مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ممثلا في شخص quot;الألعوبانquot; حسن الترابي، ثم فتح السودان لتنظيم quot;القاعدةquot; واستضاف ابن لادن وعصابته الإرهابية، وأسبغ حمايته على الإرهابي الدولي الشهير كارلوس لكن ما أن انفض السامر حتى انقلب البشير على حلفائه واحدا تلو الآخر فلم يكتف باستبعاد معلمه وحليفه الترابي من دائرة السلطة، بل أودعه غياهب السجن ووضعه رهن الإقامة الجبرية، لهذا فقد فرّ ابن لادن من السودان قبل أن يلقى مصير كارلوس الذي سلمه نظام البشير لفرنسا في صفقة خططت لها ونفذتها فاحت منها روائح كريهة .
بكل المعايير السياسية والأخلاقية والإنسانية والقانونية، فإن حاكماً من طراز عمر البشير انتهت مدة صلاحيته، وأصبح الرهان عليه خسارة مؤكدة، فرجل يتورط أو يغض البصر، أو حتى يعجز عن مواجهة جريمة إنسانية راح ضحيتها مئات الآلاف من الفقراء المهمشين من أبناء وطنه، بين قتلى ومصابين وضحايا لعمليات اغتصاب جماعية، ثم يطالبنا فخامة الرئيس السوداني بأن نطرب لجعجعته وخطبه الإنشائية الفارغة عما يسميه quot;الاستعمار الجديدquot;، ثم لا يجد من وسيلة ليتحدى بها هذا الاستعممار سوى الرقص بالعصا، وارتداء quot;قبعة الريشquot;، ومعاقبة الضحايا مرة أخرى بطرد منظمات الإغاثة الدولية التي كانت تقدم لهم الغذاء والدواء طيلة سنوات حرم خلالها أبناء دارفور من أدنى حقوقهم في مجرد حياة آمنة، ولم تعجز حكومة البشير عن حمايتهم فحسب، بل تورطت في دعم ميليشيات quot;الجنجاويدquot; سراً وعلانية، وكما يقول المثل الشعبي المصري quot;لا بيرحم ولا سايب رحمة ربنا تنزلquot;، وبعد كل هذا يتسابق العربان في الدفاع عن بقاء البشير، حتى لو دفع الثمن ملايين الفقراء والمساكين من أبناء السودان وتمزقت أوصال البلاد، واستمرت شلالات الدماء في التدفق نتيجة الحروب الأهلية التي لا يعجز quot;جلابة الخرطومquot; عن وقفها فحسب، بل يؤججون نيرانها بإلقاء المزيد من الزيت عليها .
حقاً لا يتعلم الأعراب من خطاياهم المتكررة، فهم أنفسهم الذين دفعوا صدام حسين لارتكاب الحماقة تلو الأخرى، من خوض حرب عبثية استمرت أعواماً ضد جارته إيران، وما أن حطت تلك الحرب أوزارها حتى ارتكب حماقة أخرى بغزو الكويت، وراح يتحدى العالم كالبشير تماماً، ومع ذلك تدفقت طائرات الدعم والمساندة على بغداد من ميليشيات الارتزاق من ساسة وصحافيين وفنانين وانتهازيين، مادام صدام يدفع ثمن هذه المسرحيات السمجة، وهي بالطبع خصماً من أرزاق العراقيين، الذين أصبحوا حينذاك غرباء في وطنهم، ولم يتراجع صدام حتى بات العراق في قبضة الاحتلال، ومع ذلك لم يزل بعض العربان يصنفون صدام باعتباره بطلاً قومياً، وينظمون الاحتفاليات لتأبينه فأي عبث هذا بالله عليكم؟ .
بالطبع أدرك جيداً أن سيناريو التخلص من البشير عن طريق quot;تدخل جراحيquot; مصري عاجل، باعتبارها الدولة صاحبة المصلحة الكبرى في وحدة السودان واستقراره وتصالحه مع العالم، هو أمر يشبه quot;كذبة أبريلquot;، تبدو صادمة لكنها لا تخلو من المنطق، فنظام مترهل حولّ مصر إلى quot;جمهورية متقاعدينquot;، وبددّ أحلام أبنائه، واكتفى بشرارهم والعجزة ليدفع بهم لصدارة الصفوف، نظام يتمدد فيه الفساد quot;كما يتمدد ثعبان في الرملquot;، وباختصار فإن نظاماً بهذه الملامح لا يمكن أن نطالبه بالإقدام على مساعدة جيرانه بكل هذه الجرأة، قبل أن يساعد نفسه أولاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
والله المستعان
[email protected]
مرة أخرى تعالوا نتخيل ـ وكل المعجزات بدأت بخيال ـ أن مؤسسات مصر الدبلوماسية والأمنية وغيرها من الأجهزة أبرمت اتفاقا مع quot;سلفا كيرquot; حاكم الجنوب، ونخبة من كبار الجنرالات وقادة أجهزة الأمن هناك على ترتيب الأوضاع في السودان، في حال غياب البشير لسبب أو آخر، وكيف يمكن أن تمضي الأمور على نحو آمن، فمستقبل السودان أهم من مستقبل البشير أو غيره، لأن الأوطان أبقى من الأشخاص، خاصة حين يصبحوا عبئاً عليها، وسبباً في أزماتها الداخلية والخارجية كما هو حال البشير الذي أحسب أنه استنفذ كل فرصه في الداخل والخارج، وصار عبئاً على الشعب السوداني بل ومحيطه الإقليمي برمته .
فالبشير شأن غيره من الطغاة اختطف السودان، وأصر على أن يحوله إلى رهينة، وأصبح سبباً أساسياً في أزمة السودان مع قطاعات عريضة من أبنائه وجيرانه بل والعالم، ولم يعد جزءاً من الحل، فأى حل جاد لابد وأن يبدأ بإزاحته، وأتصور أن مصلحة السودان وأبنائه وكل جيرانه، تكمن في إقصاء هذا الرجل عن الحكم، لأن الأزمة الراهنة لا يمكن حلها ومحاصرة تداعياتها في ظل استمراره كحاكم مأزوم تلاحقه قرارات المحكمة الجنائية، ويرى أن مجرد تحركه بطائرته عبر هذه العاصمة أو تلك هو النصر المبين، ولتذهب مصالح البلاد إلى الجحيم، مادام quot;فخامتهquot; متربعاً على سدة الحكم، ويجد من يبرر تصرفاته .
ونعود للسيناريو المفترض، فما أن تحط طائرة البشير على أرض مطار القاهرة حتى تقله سيارة إلى جهة ما حيث يلتقيه فيها مسؤول أمني كبير، لكن دون مستوى الرئيس، ليخيره بين أمرين: الإقامة في الفيللا الفاخرة التي كان يقطنها الرئيس السوداني السابق جعفر نميري بشارع العروبة في القاهرة، أو إذا كان يفضل التوجه إلى لاهاي ليواجه مصيره المحتوم حتى يحاكم على الإتهامات الفظيعة بالتورط في جرائم حرب أودت بحياة مئات المدنيين من أهالي إقليم دارفور المنكوب والمهمش، منذ أن وصل البشير إلى السلطة على ظهر دبابة في الانقلاب العسكري المشؤوم .
بالطبع يبدو هذا المشهد درامياً، وربما يراه البعض غير أخلاقي، لكن هذه هي السياسة، فهي لعبة المصالح ولا مكان فيها للمشاعر الشخصية، فالشهامة والفزعة والكرم كلها أمور طيبة على صعيد السلوك بين الأفراد، لكن حين يتعلق الأمر بمصالح الدول ومستقبل الشعوب، تتغير قواعد اللعبة جذرياً، وهذا ما لا يرغب العربان ـ حكاماً ومحكومين ـ في استيعابه، فمثلاً تراهم يصفون سلوك الشعب الأميركي بأنه ودود وأخلاقي، غير أنهم لا يدركون لماذا تتصرف الإدارات الأميركية المتعاقبة على نحو براغماتي لا يقيم وزناً لهذه المنظومة الأخلاقية، فالدول العظمى ليست مؤسسات خيرية، بل كيانات منوطة بالدفاع عن مصالح ملايين البشر، وهكذا تصرفت دائماً كافة الإمبراطوريات الكبرى على مر العصور والدهور .
وحتى وفقاً للحسابات الأخلاقية فلماذا لا يتجرع البشير من ذات الكأس التي طالما أذاقها لجميع حلفائه، بغض النظر عن تقويم طبيعة هذه التحالفات، فالرجل الذي قفز على السلطة عبر انقلاب عسكري وبضوء أخضر من مصر، لكنه لم يلبث أن انقلب عليها وتورط نظامه في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، بعد أن تحالف مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ممثلا في شخص quot;الألعوبانquot; حسن الترابي، ثم فتح السودان لتنظيم quot;القاعدةquot; واستضاف ابن لادن وعصابته الإرهابية، وأسبغ حمايته على الإرهابي الدولي الشهير كارلوس لكن ما أن انفض السامر حتى انقلب البشير على حلفائه واحدا تلو الآخر فلم يكتف باستبعاد معلمه وحليفه الترابي من دائرة السلطة، بل أودعه غياهب السجن ووضعه رهن الإقامة الجبرية، لهذا فقد فرّ ابن لادن من السودان قبل أن يلقى مصير كارلوس الذي سلمه نظام البشير لفرنسا في صفقة خططت لها ونفذتها فاحت منها روائح كريهة .
بكل المعايير السياسية والأخلاقية والإنسانية والقانونية، فإن حاكماً من طراز عمر البشير انتهت مدة صلاحيته، وأصبح الرهان عليه خسارة مؤكدة، فرجل يتورط أو يغض البصر، أو حتى يعجز عن مواجهة جريمة إنسانية راح ضحيتها مئات الآلاف من الفقراء المهمشين من أبناء وطنه، بين قتلى ومصابين وضحايا لعمليات اغتصاب جماعية، ثم يطالبنا فخامة الرئيس السوداني بأن نطرب لجعجعته وخطبه الإنشائية الفارغة عما يسميه quot;الاستعمار الجديدquot;، ثم لا يجد من وسيلة ليتحدى بها هذا الاستعممار سوى الرقص بالعصا، وارتداء quot;قبعة الريشquot;، ومعاقبة الضحايا مرة أخرى بطرد منظمات الإغاثة الدولية التي كانت تقدم لهم الغذاء والدواء طيلة سنوات حرم خلالها أبناء دارفور من أدنى حقوقهم في مجرد حياة آمنة، ولم تعجز حكومة البشير عن حمايتهم فحسب، بل تورطت في دعم ميليشيات quot;الجنجاويدquot; سراً وعلانية، وكما يقول المثل الشعبي المصري quot;لا بيرحم ولا سايب رحمة ربنا تنزلquot;، وبعد كل هذا يتسابق العربان في الدفاع عن بقاء البشير، حتى لو دفع الثمن ملايين الفقراء والمساكين من أبناء السودان وتمزقت أوصال البلاد، واستمرت شلالات الدماء في التدفق نتيجة الحروب الأهلية التي لا يعجز quot;جلابة الخرطومquot; عن وقفها فحسب، بل يؤججون نيرانها بإلقاء المزيد من الزيت عليها .
حقاً لا يتعلم الأعراب من خطاياهم المتكررة، فهم أنفسهم الذين دفعوا صدام حسين لارتكاب الحماقة تلو الأخرى، من خوض حرب عبثية استمرت أعواماً ضد جارته إيران، وما أن حطت تلك الحرب أوزارها حتى ارتكب حماقة أخرى بغزو الكويت، وراح يتحدى العالم كالبشير تماماً، ومع ذلك تدفقت طائرات الدعم والمساندة على بغداد من ميليشيات الارتزاق من ساسة وصحافيين وفنانين وانتهازيين، مادام صدام يدفع ثمن هذه المسرحيات السمجة، وهي بالطبع خصماً من أرزاق العراقيين، الذين أصبحوا حينذاك غرباء في وطنهم، ولم يتراجع صدام حتى بات العراق في قبضة الاحتلال، ومع ذلك لم يزل بعض العربان يصنفون صدام باعتباره بطلاً قومياً، وينظمون الاحتفاليات لتأبينه فأي عبث هذا بالله عليكم؟ .
بالطبع أدرك جيداً أن سيناريو التخلص من البشير عن طريق quot;تدخل جراحيquot; مصري عاجل، باعتبارها الدولة صاحبة المصلحة الكبرى في وحدة السودان واستقراره وتصالحه مع العالم، هو أمر يشبه quot;كذبة أبريلquot;، تبدو صادمة لكنها لا تخلو من المنطق، فنظام مترهل حولّ مصر إلى quot;جمهورية متقاعدينquot;، وبددّ أحلام أبنائه، واكتفى بشرارهم والعجزة ليدفع بهم لصدارة الصفوف، نظام يتمدد فيه الفساد quot;كما يتمدد ثعبان في الرملquot;، وباختصار فإن نظاماً بهذه الملامح لا يمكن أن نطالبه بالإقدام على مساعدة جيرانه بكل هذه الجرأة، قبل أن يساعد نفسه أولاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
والله المستعان
[email protected]
التعليقات