تربع إله الأديان، بمختلف مسمياته، عبر آلاف السنين، على عرش الاعتقاد وهيمن على الأرض ومن عليها وما فوقها من الأجرام المنظورة، المسخرة لترويج فكرة الهيمنة المطلقة للخالق، وتفشي الخشية من بطشه وعقابه الآخروي، من خلال فكرة العقاب والثواب، والجنة والنار، أو الفردوس وجهنم، وهو المصير الذي ينتظر البشر منذ أول إنسان خلقه الخالق، وأسماه آدم، إلى آخر كائن بشري سيموت قبل يوم القيامة ويوم البعث والحساب، وهي اللوحة التي روجتها وبشرت بها كافة الأديان السماوية. واتسمت مفردات الخطاب الديني في هذا المجال، بالرغم من تنوع الأديان والأطروحات، باحتقار الحياة الفانية وتمجيد الموت باعتباره المدخل للحياة الأبدية التي ستفرز وتقرر مصير الكائن البشري الذي سيعيش، إما في جحيم أبدي أو نعيم ابدي. كما تميزت الأطروحة الدينية بضرورة الخضوع والطاعة والإذعان وتقديس النصوص والأشخاص والاعتقاد أو الإيمان بالغيبيات بلا أدنى مجال للمناقشة أو الجدل، وتقبلها كمسلمات لا تقبل الدحض أو الشك. من هنا طرح الوعي الإنساني على نفسه عدداً من الأسئلة الجوهرية والوجودية المتعلقة بماهية هذا الإله المتناقض الصفات، المنتقم الجبار، والرحمن الرحيم، ذو القدرة الكلية اللامتناهية، والعاجز عن منع الشر ورمزه الشيطان من التأثير وإغواء أحب مخلوقات الله اي الإنسان، والذي لا يمكن للبشر معارضته أو عصيانه. ثم تحولت هذه العملية إلى مشكلة حساسة تتعلق بوجود أو عدم وجود هذا الإله الخالق، وتعذر القيام بمقاربة هذا الموضوع على نحو عقلاني، لا سيما في القرون الوسطى وما قبلها حيث كان بوسع الفلاسفة فقط مناقشة هذه القضية وبصورة سرية جداً خوفاً من سطوة وغضب وبطش المؤسسات الدينية ومحاكم التفتيش لأنها تمس صميم الإيمان والاعتقاد وتهدد بتقويض دعائم الصرح الديني برمته. البعض اعتبر المسألة محض إيمان والآخر اعتبرها من لوازم الذكاء والمعرفة والتأمل وقابلة للمناقشة. تطرق لهذا الموضوع في القرون الوسطى علماء الدين والفقهاء والثيولوجيين theacute;ogogiens فيما تخصص بمناقشته الفلاسفة في القرن السابع عشر وما بعده إلى أن وصل إلى يد العلماء في القرن التاسع عشر والقرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، والسبب في ذلك هو تغير مفاهيمنا ومعلوماتنا عن الكون وتجددها المستمر مما أثر بشكل جوهري على طريقة تناول هذا الموضوع وإعادة النظر في كثير من مسلماته الدينية والغيبية. وبعد أن أعلن نيتشه موت الله المعنوي في نفوس أغلبية الماديين والعلمانيين والعقلانيين هاهو الله اليوم يعود بقوة بعد الصحو الدينية الملحوظة في العالم اليوم، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم الحر والدولة الأعظم في مجال القوة العسكرية والتكنولوجيا والتقدم العلمي، حيث بات الإيمان بالله يمثل ضمانة ورمزاً للوطنية ونموذجاً للامتثالية والتقيد بالأعراف الدينية وشرطاً للنجاح الاجتماعي، مما جعل بعض العلماء يخلطون بين البحث العلمي والبحث عن الذات الإلهية. واعتبر هؤلاء أن هناك يداً إلهية تقف خلف كافة الظواهر التي عجز العلم حتى اليوم عن تقديم إجابات ناجعة عنها والتي وصفت بالمعارف الخفية. فعلى سبيل المثال لا الحصر: هل الانفجار العظيم Le Big Bang حدث بفعل قوانين طبيعية كما قال ستيفن هوكينغ وغيره أم بفعل أثر إلهي ونتيجة عملية خلق منظمة على يد خالق، وهل هناك حقاً بيغ بانغ أو إنفجار عظيم أم هو مجرد فرضية وهمية؟ وهل هناك انفجارات عظيمة أخرى سبقته وأخرى ستليه في سلسلة لا متناهية ليس لها بداية ولا نهاية كما تقول بعض النظريات؟ وهل كوننا المرئي واقع حقيقي ملموس أم مجرد وهم كما تقول نظريات أخرى؟ وهل يمكن أن يكون الكون المرئي مجرد حاسوب أو كومبيوتر عملاق؟ إن هذا الحدث ذو الفرادة الكونية بدأ من نقطة لا متناهية في الصغر infiniment petit حيث اللامكان واللازمان بل مجرد معلومة information رياضية حاسوبية، ووقع الحدث بفعل جاذبية هائلة في قوتها وتسبب في خلق الزمان والمكان والمادة في آن واحد انطلاقاً من طاقة جبارة مركزة ومكثفة في حيز لا متناهي في الصغر، ثم انتشرت تلك المادة ومازالت تتمدد وتتوسع وتنتشر، وهي التي شكلت المجرات بما فيها من نجوم وكواكب وغازات كونية ومحتويات أخرى مجهولة الماهية. ومهما بدت هذه الفرضية غير قابلة للتخيل والإدراك البشري إلا أنها باتت اليوم من القوة والمتانة بمكان أنها فرضت نفسها على مجمل الوسط العلمي لشرح الكون ومعضلاته إلى حين ظهور نظرية أخرى أقوى منها وأكمل، تزيحها عن عرشها وتحل مكانها، مما يعني بالتالي تراجع حدود معارفنا ومعلوماتنا الحالية عن الكون. بعض الأذكياء من منظري عملية الخلق الإلهي المباشر قالوا أن يداً ربانية هي التي تقف وراء الانفجار العظيم لتعضيد مواقف أديانهم المرتبك تجاه هذه النظرية العلمية التي فرضت نفسها و بشروا بتدخل الإله أمكن لهذا الحدث أن يقع ويكون الشرارة الأولى لولادة الكون المرئي. والحال أنه لو ثبت وقوع الانفجار العظيم ووجود نقطة الصفر كبداية لانبثاق الكون فإن ذلك لن يشكل بأي حال من الأحوال دليلاً على الله كما يقول مناوئيهم من الماديين والعلمانيين والعقلانيين ممن تبنى جانب العلم وحده. كما استغل المتدينون بعض الحقائق العلمية الجزئية السائدة اليوم والتي تقول إن بعض الثوابت الكونية في الكون المرئي constantes cosmiques والثوابت الفيزيائية constantes physiques لا يمكن أن تختلف عما كانت عليه منذ لحظة البدء إلى يوم الناس هذا، وإلى مستقبل غير منظور. فلو كانت قوة الجاذبية أو الثقالة La Force de Gavitation أكثر كثافة حتى ولو بمقدار لا تدركه أية أجهزة قياس لانهار الكون على نفسه بعد حدث الانفجار العظيم مباشرة، ولو كانت أضعف بقليل ول بجزء من مليار المليار المليار لما أمكن تكون النجوم والمجرات والكواكب. وكذلك لو كانت الخصائص الفيزيائية لعنصر الكاربون، الأساسي والجوهري للكيمياء العضوية، لما أمكن نشوء الحياة، مما يعني، برأي هؤلاء، أن هناك قوة عاقلة وذكية وذات قدرة مطلقة تقف وراء مثل هذا التنظيم والتقدير الدقيق في كوننا المرئي وبالتالي لابد من وجود معجزة إلهية أو عقل يمتلك نية مسبقة وليس الصدفة العبثية لأن إحتمالية أن يخلق العالم نفسه بنفسه من العدم معدومة كلياً من وجهة نظرهم، لذلك فإن العقل الإلهي هو الذي حدد تلك القيم والثوابت الكونية التي يستند إليها الوجود المادي اليوم. ويرد عليهم أنصار عملية الخلق الذاتي أو التلقائي بأن الإنسان وبسبب خوفه من المجهول يحب دائماً أن يدهن جدار جهله بالألوان الإلهية وإن العلم قادر على الولوج إلى كنه الوجود وبمقدوره مع تطور التكنولوجيا، اكتشاف القوانين الثابتة في الكون بقراءة كتاب الطبيعة وكشف أسرارها من خلال الأدوات الرياضية.ويمكنه الفرز بين الخطأ والصواب استناداً إلى التجارب المختبرية الدقيقة في جميع المجالات والاختصاصات العلمية التي تمس كافة أوجه النشاط البشري، وإن المعلومة الحاسوبية الرياضية، السابقة لثلاثية المادة والزمن والمكان، قادرة في لحظة ما، عند توفر الطاقة اللازمة، للتحول إلى كون فيزيائي. فالعلم يتقدم وقد اقترح العالم الفيزيائي أندريه ليند Andrei Linde من جامعة ستانفور في كاليفورنيا نظرية تعدد الأكوان La theacute;orie des Multivers - Univers multiples حيث هناك مليارات من الانفجارات العظيمة تقوم بدورها بخلق مليارات من الأكوان في أبعاد لايمكننا إدراكها أو اكتشافها في مستوانا العلمي البدائي اليوم، والكثير منها يجهض لحظة ولادته بسبب ثوابت فيزيائية عشوائية أو صدفوية، غير مناسبة أو غير ملائمة constantes physiques aleacute;atoires inapproprieacute;es، فيما البعض الآخر يثابر ويتطور ذاتياً بفعل توفر تناسق في الثوابت كما هو حال كوننا المرئي، مثلما يحصل في لعبة اللوتوloto حيث هناك واحد فقط من بين ملايين اللاعبين من يصدف أن تأتي أرقامه مطابقة لما يخرج من قارورة الكرات المرقمة. كما انظم العالم البريطاني الفذ ستيفن هاوكينغ stephen Hawking إلى جوقة المتشككين بعد أن أصدر مؤخراً كتابه الجديد والمثير للجدل quot;التصميم الكبيرquot;the grand design، والذي يعتقد أنه قدم فيه إجابات جديدة حول القضايا القصوى في الحياة والمقصود بها التساؤلات الميتافيزيقية التي تؤرق البشر عن وجود أو عدم وجود الله. والذي قال في خاتمته: طالما وجدت قوانين مثل الجاذبية فإن بوسع الكون أن يخلق نفسه إنطلاقاً من لاشيء، ولم يقل العدم، أي أن الخلق التلقائي هو السبب في وجود الشيء وليس العدم، وذلك إجابة على سؤال قديم يقول لماذا يوجد شيء ما بدلاً من لاشيء، وبالتالي يعتقد هاوكينغ أنه ليس من الضروري أن يكون هناك إله لكي يضغط على زناد لإطلاق الشرارة الأولى والشروع في عملية انبثاق الكون وقد استند هاوكينغ إلى النظرية الفيزيائية الجديدة المعروفة بـ quot;نظرية م M theacute;orie أو نظرية العوالم المتعددة لتعزيز رأيه، رغم أنها لا تزال فرضية غير مثبتة مختبرياً بعد. ولم يشرح هاوكينغ في كتابه الجديد ماهية المفارق الذي أوجد الجاذبية وباقي القوانين الفيزيائية، هل هو إله متعالي لا يريد هاوكينغ الاعتراف بوجوده؟ أم هو الكون المطلق ذاته باعتباره quot; كان حي أزلي وأبدي لابداية له ولا نهاية، لم يلد ولم يولد، ولا حدود له لا في الزمان ولا في المكان، سواء أكان الزمن والمكان النسبي في كوننا المرئي، أو الزمان والمكان المطلقين في الكون المطلق، وهو الوجود المكون من عدد لا متناهي من المليارات من الأكوان على غرار كوننا المرئي، وبذلك سنسقط مرة أخرى في هوة الميتافيزيقيا. وهذا يعني في رأي أتباع عملية الخلق الرباني Les creacute;ationnistes أن مباحث النشأة والأصل ليست من اختصاص العلوم التجريبية الوضعية التي تبحث في الظواهر الطبيعية وليس في أسباب وجودها. هناك نظرية أخرى هي الفيزياء الرقميةLa theacute;orie de la physique numeacute;rique التي تقترح فكرة أن كل ما يكون العالم الواقعي الذي نعيشه ونلمسه مادياً إن هو إلا موجات كهرو مغناطيسية ذات معلومات مبرمجة للحمض النووي الكونيseacute;quences drsquo;ADN cosmiques مروراً بالذرات ومكوناتها حيث البرمجة على غرار برمجة الحاسوب من صفر وواحد 0 et 1 مما يوحي بأن الكون ليس سوى حاسوب أو كومبيوتر عملاق Lrsquo;Univers est un ordinateur geacute;ant ووجودنا ليس سوى برنامج حاسوبي programme informatique. وتستند هذه الفرضية الفنطازية fantastique إلى ثلاث مسلمات تقول إن الحسابات والمعادلات الرياضية يمكن أن تصف كل شيء نظرياً وإن كل الأشياء يمكن حسابها رياضياً وكل ما هو قابل للحساب يشكل حداً واحداً. وهي الفكرة التي بنيت عليها ثيمة التحفة السينمائية بأجزائها الثلاثة ماتريكس Matrix حيث العالم الذي يعيش فيه الأبطال افتراضي virtuel وليس واقعي reacute;el. عندما نتحدث عن quot; برنامجquot; فإننا حتماً نفكر بحاسوب أو كومبيوتر لتنفيذ هذا البرنامج والإجابة تكمن في هذا quot; الآخرquot; الذي أوجد الكومبيوتر قد يكون، كون أو أكوان أخرى، أو بعد أو أبعاد أخرى غير مرئية، وها نحن ننزلق مرة أخرى إلى متاهات الميتافيزيقيا. واختزل البعض هذه الفكرة عندما اعتبر كوننا المرئي هو الكومبيوتر العملاق وسيحتاج حتماً إلى من يصنعه على المستوى الكوني بالطبع وليس المستوى البشري. ومن هنا أعتبر أن الله هو الكود أو الشيفرة الأصلية أو المصدر Dieu est le code source والمبرمج le programmeur. أي أن الكون هو الكائن المطلق الأول Lrsquo;univers est lrsquo;Etre Suprecirc;me.
يتبع
التعليقات