اشتعلت منذ أيام قليلة أزمة جديدة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. كان بطل الأزمة هذه المرة الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس ومطران دمياط الذي غضب منه المسلمون مرتين في غضون أيام قليلة. كانت الغضبة الأولى حين صرح المطران في حوار صحفي بأن المسلمين حلّوا ضيوفاً على مصر في القرن السابع الميلادي، وكانت الغضبة الثانية حين أبدى الرجل قلقه من النص القرآني الشهيرquot;لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريمquot; الوارد في سورة المائدة. لم يتقبل المسلمون تصريحات الأنبا بيشوي وهاجموه وطالبوا بعزله وبمحاكمته بتهم غليظة من عينة الإساءة للإسلام والقول بتحريف القرآن وإثارة الفتنة الطائفية.
هل أخطأ الأنبا بيشوي في رأيه؟ الإجابة هي لا لأن هناك الكثير من الدلائل والبراهين التي تدعم رأي المطران الذي يعرف بأنه من الحمائم في ما يتعلق بالعلاقة بين المسيحيين والمسلمين في مصر. وفضلاً عن ذلك فالأنبا بيشوي هو الرجل الذي طالما دافع عن قضايا المسلمين ومنها على سبيل المثال قضية القدس التي يرفض بشأنها النظريات اليهودية والمسيحية الإنجيلية القائلة بعودة اليهود إلى الأرض التي كانت وعدت لأبائهم وبضرورة بناء الهيكل الثالث فوق موقعه القديم الذي يحتله حالياً المسجد الأقصى. لم يخطيء الأنبا بيشوي في رأيه، ولكنه ربما جانبه الصواب في التعبير عن رأيه في مجتمع أحادي منغلق غير متسامح. ولأن الموضوع أصبح قضية رأي عام سأسمح لنفي في السطور التالية بمناقشة القضيتين سبب الأزمة بعقلانية وهدوء حتى نعرف لماذا لم يخطيء الرجل في تصريحاته.
في ما يتعلق بالقضية الأولى التي اعتبر فيها الأنبا بيشوي أن المسلمين حلّوا ضيوفاً على مصر في القرن السابع الميلادي، كان الرجل محقاً تماماً في ما قاله، لأن المسلمين العرب الذين غزوا مصر في القرن السابع جاءوا من شبه الجزيرة العربية ودخلوا مصر التي لم تكن عندئذ مسلمة الديانة أو عربية اللسان. وكان من الأحرى توجيه الشكر للأنبا بيشوي على اختياره المهذب للفظ quot;ضيوفquot; فقد كان من الممكن للأنبا بيشوي أن يقول بأن المسلمين العرب كانوا محتلين، لا ضيوفاً لأنهم دخلوا مصر بقوة السلاح. ولكن الرجل كان كريماً حقاً حين وصف غزاة بلده بالضيوف. (سؤال بريء: هل بمكن لأحد أن يقول بأن الإسرائيليين ضيوف في الأراضي الفلسطينية؟ أو أن الأميركيين ضيوف في العراق وأفغانستان؟)
لم يعن تصريح الأنبا بيشوي أن المسلمين المصريين الحاليين ضيوف على وطنهم، إذ من المؤكد أن الأنبا بيشوي ليس ساذجاً حتى يؤمن ويعلن بأن لا جذور مصرية للمسلمين الحاليين في مصر. الجميع يعلم حقيقة أن المسلمين الذين يعيشون في مصر اليوم هم خليط من أحفاد القبائل العربية التي تم نقلها إلى مصر بغية تعريبها وأحفاد المصريين الأصليين الذين أمنوا بالإسلام سواء طواعية أو إكراهاً طوال القرون الأربعة عشر الماضية.
كان الانفعال الغريب للشارع المسلم والذي عكسه بصورة فجة الدكتور محمد سليم العوا في لقائه مع المذيع أحمد منصور على قناة الجزيرة غير مبرر على الإطلاق، لأن التاريخ الصادق يشهد على صحة ما عبر عنه بأدب الأنبا بيشوي. ومن المؤكد أن المزايدات التي شهدتها مصر في الأسبوع الماضي بشأن تصريح الانبا بيشوي ما هي إلا نوع من الضغط على الكنيسة المصرية لتقديم تنازلات جديدة للمتطرفين المسلمين الذين يزعجهم وجود أي رمز من رموز المسيحية في مصر.
أما بالنسبة للقضية الثانية والأهم والتي تعلقت بقلق الأنبا بيشوي من وجود نص قرآني يكّفر المسيحيين، فالرجل من دون شك محق في قلقه. القضية محل قلق الأنبا بيشوي لا تتعلق فقط بنص يكفر المسيحيين ولكنها ترتبط بنتائج التكفير لأن القرآن يأمر المسلمين صراحة في عدد من النصوص بقتل الكفار أينما وجدوهم. موقف المطران المصري واضح ولا لبس فيه لأن الكثيرين من المتطرفين المسلمين يؤمنون اليوم بأنه من الواجب التخلص من الكفار والمشركين وغير المسلمين. (سؤال بريء: هل كان المسلمون سيتقبلون وجود نصوص تكفرهم وتدعوا للتخلص منهم؟) أليس قلق المسيحيين هنا طبيعي؟
القلق الذي عبر عنه الانبا بيشوي بصورة شخصية في لقاء ودي مع أحد السفراء المصريين بالخارج من دون شك مبرر ومشروع إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المسلمين يقدسون القرآن ويتسابقون على تنفيذ تعاليمه التي تأتي من ضمنها نصوص يفهم منهاتكفر المسيحيين والدعوة لقتلهم. والقلق الذي ينتاب الأنبا بيشوي لا يقتصر عليه فقط، ولكنه يمتد إلى الملايين من المسيحيين حول العالم الذين يتابعون الأنباء التي تتداولها وسائل الإعلام بصفة يومية والتي تشير إلى ازدياد التطرف وانتشار الإرهاب بدافع تنفيذ التعاليم الإسلامية.
يقول علماء مسلمون، خاصة الذين يعيشون منهم في الغرب، بأن الإسلام تم اختطافه على أيدي المتطرفين والإرهابيين من عينة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأيمن الزرقاوي وأنور العوالكي ومحمد عطا وغيرهم. ولكن العلماء لا يبرهنون على قولهم هذا، إذ حين يواجهون بأسئلة تتعلق بالنصوص التي تكفر المسيحيين وتطالب المسلمين بالجهاد ضدهم نجدهم، العلماء، يحيدون عن الاجابة بالقول بأن الإسلام كرّم السيد المسيح وأمه مريم وأنه اعتبر المسيحيين أقرب الناس مودة للمسلمين. وتبقى بذلك الأسئلة المتعلقة بالتكفير بدون أجوبة شافية مقنعة، وتبقى الحيرة والقلق في نفوس المسيحيين الذين يدركون مسألة الناسخ والمسوخ في القرآن ويعرفون أن بعض من أئمة الإسلام يقولون بأن النصوص الودية نحو المسيحيين نسخت بنصوص أخرى تدعو لقتالهم.
لست أدافع بهذا المقال عن الأنبا بيشوي، إذ لم أكن أبداً من المعجبين لا بإسلوب عمله كمسئول كنسي كبير ولا بأرائه العقائدية أو الكنسية أو السياسية أو الإجتماعية. ما أسطره من حروف وكلمات هنا يعكس رأياً يعبر عن هواجس تساور الكثير من المسيحيين هذه الأيام.
لست أبالغ هنا إذا قلت بأن القلق الذي يعتري المسيحيين من انتشار التطرف وارتفاع وتيرة الإرهاب يقف وراءه حبهم للسلام وولائهم لأوطانهم ورغبتهم في العيش في تسامح مع شركائهم في أوطانهم. وبقي أن أقول لقد كان من الأفضل لمفتعلي الضجة المثارة بشأن تصريحات الأنبا بيشوي أن يردوا على الرجل بالحوار والمنطق بدلاً من إشعال الموقف بصورة أخشى أن تقود إلى أعمال عنف كريهة ضد المسيحيين.
[email protected]
Twitter: @JosephBishara
التعليقات