كان عمى الشيخ محمد البحيرى (رحمه الله) أستاذا للغة العربية بالأزهر الشريف، وأعتقد أنه أول من سافر خارج مصر المحروسة من آل البحيرى من أيام الفراعنة حتى منتصف القرن العشرين فقد سافر فى بعثات دعوة أزهرية إلى أندونيسيا وإلى الجزائر وكان الأزهر الشريف (وعلى نفقة الحكومة المصرية) يحرص على بث الدعوة الإسلامية فى بلاد العالم، وقد قيل لى أنه حين رجع عمى من تلك البلاد البعيدة كان يحكى لآل البحيرى عن الحفاوة التى كان يقابل بها علماء الأزهر فى كل مكان، لأنهم كانوا بصراحة يعبرون عن وجه مصر السمح والطيب، فلم يلف أحدهم حزاما ناسفا حول وسطه يقتل به الأبرياء سعيا وراءquot;شهادةquot; مزيفة ولم يكن أحدهم يدعو إلى قتل الآخرين، ولكنهم كانوا يدعون إلى مكارم الأخلاق وشعائر الديانة مثلهم مثل أى بعثات تبشيرية مسيحية فى العالم.
ولكن يبدو أن مصر مؤخرا أصبحت تستورد كل شئ حتى المشايخ، فقد قرأت فى الإنترنت (وأنا أعرف أن نصف ما ينشر فى الإنترنت إشاعات)، بأن شيخا سعوديا قد خطب الجمعة الماضية فى القاهرة وقال: quot;إن مصر لن تكون دولة إسلامية أو دولة دينية طالما بها راقصاتquot;!!
وطبعا الشيخ عنده حق، لأنه من تجارب التاريخ الحديث عندما قامت الجمهورية الإسلامية فى إيران طفشت معظم المطربات من البلد، وسجن البعض الآخر، أما الراقصات فحدث ولا حرج لم نعرف ماذا حدث لهن، ويقال أنهن أصبحن سبايا لدى الحرس الثورى!!
...
ومصر والأزهر الشريف بعلمائه هما أهم منارة للإسلام منذ أكثر من ألف سنة، وكانت شهادة العالمية تعطى حاملها حق إستخدام لفظ quot;عالمquot; ويصبح من علماء الأزهر، ومع تطوير الأزهر أصبح يطلق عليها شهادة الدكتوراه، وأصبح يقال الدكتور الشيخ فلان الفلانى، أو الشيخ الدكتور فلان الفلانى.

وفى نفس الوقت (وبغير أى تناقضات وتلك كانت روعة مصر) خرجت من مصر أهم راقصات الرقص الشرقى فى العالم، وعلى أنغام الواحدة والنصف المصرية رقص كل العالم، وكما أن للغرب وروسيا رقص الباليه ولدى أمريكا رقص الروك آند رول ولبدو الجزيرة العربية رقصة العارضة، فإن لمصر الرقص الشرقى، وإلى وقت قريب كان يقال للراقصة فى مصر quot;عالمةquot; (يعنى أنها quot;عالمةquot; ببواطن الأمور!!)، فكان يقال: quot;بمبة كشر العالمةquot;، quot;وزبيدة الكلوباتية العالمةquot;، quot;وبديعة مصابنى العالمةquot;، ومن أهمية الراقصات فى مصر، فإن المصريين أطلقوا أسم بديعة على كوبرى هام بالقاهرة (كوبرى بديعة) تغير فيما بعد أسمه إلى (كوبرى الجلاء)!

ولقد ميز علم النحو quot;المصرىquot; بين عالم الأزهر وعالمة الرقص، ويكون هذا فى الجمع، فجمع العالم quot;علماءquot; فيقال: هيئة كبار علماء الأزهرquot;، أما العالمة، فالجمع هو: quot;عوالمquot; فيقال: quot;عوالم شارع محمد علىquot;!
...
ومع quot;الصحوة الدينيةquot; الحديثة إكتشف كثيرا من المصريين فجأة أن الرقص الشرقى حرام، فتقلص عدد الراقصات المصريات بشكل مخيف، وبدأنا فى إستيراد الراقصات من روسيا وبلاد شرق أوروبا، وأخشى أن تصدر لنا الصين راقصات بلاستيك!! حتى فرق الرقص الشعبى الرائعة مثل فرقة رضا والفرقة القومية للفنون الشعبية إختفت تقريبا بعد أن تحجبت %90 من البنات، ولكن رغم كل هذا إذا ذهبت إلى أحد الأفراح المصرية الحديثة، حتى إن لم تكن هناك راقصة، فإن الرقص الشرقى مازال متوارث فى جينات البنت المصرية، فتجد أن كل البنات (محجبات وغير محجبات) يقمن بالرقص فى الأفراح لتعويض عدم وجود راقصة، وأيضا فى حفلات المطربين والمطربات فى الهواء الطلق فما أن يبدأ الإيقاع على الواحدة والنصف، إلا وتبدأ البنات فى الرقص والتمايل، والحقيقة لا يتفوق على بنات مصر فى هذا سوى بنات لبنان، جعلهن الله ذخرا للأمة quot;العلمانيةquot;.
...
ووجود الرقص هو تأكيد على وجود الفن، والقضاء على الرقص كما يطالب الشيخ السعودى هو فقط البداية، فبعد هذا يبدأ القضاء على الغناء (بإعتبار أن الموسيقى حرام بإجماع الفقهاء)، ثم ينتقل الأمر إلى التمثيل وفن التصوير وبالطبع فن النحت (الذى يخلق الأصنام) ولن يتبقى من الفنون فى النهاية غير فن نحت البطيخ!

والدعوة إلى توبة الفنانات التى إجتاحت عددا لا باس به من الفنانات المصريات، هى دعوة خبيثة وحتى كلمة quot;توبةquot; الفنانات هى كلمة أشد خبثا وكأن الفنانات يمارسن الدعارة وتاب الله عليهن فجأة، فالتوبة لا تكون إلا عن معصية، فهكذا نجح المتطرفون فى مصر فى وصم الفن quot;بالمعصيةquot;، فبعد أن كان الفن المصرى منارة فى المنطقة وغذاء للروح المصرية والعربية أصبح فجأة معصية يستتاب عليها مرتكبوها وإن لم يستتب quot;يقتلquot;، كما قتل الإرهابيون بعض الفنانين فى الجزائر.
فالفن حرام ولكن زواج المسيار وزواج المتعة حلال!!
فالمسألة ليست راقصات مصر، ولكن الهجمة القادمة سوف تكون على: فن مصر وأدب مصر وثقافة مصر وسينما مصر وكوميديا مصر وأزهر مصر وأقباط مصر وعلمانية مصر والدولة المدنية بصفة عامة، سوف يبدأون بالرقص ثم بمنع القبلات فى الأفلام ثم بعدم ظهور المذيعات على التليفزيون إلا بالحجاب ثم ضرورة أن يربى المذيعون ذقونهم ويصرف لكل منهم زبيبة صلاة قبل الظهور على الشاشة، ثم تحديد طول فستان السائحات فى شرم الشيخ والبحر الأحمر ويستحسن إغلاق صناعة السياحة نهائيا فى مصر وأهو الباب إللى يجى لك منه الريح سده وإستريح، وسوف تهب رياحا كثيرة على مصر، ويبدو أن كل الأبواب التى لدينا فى مصر لن تكفى لسد تلك الرياح!!
[email protected]