فى الجزء السابق (4) ذكرنا عما حصل فى بريطانيا وايران فى فترتين مقاربتين من تغييرالملك هنرى الثامن الذي جلس على العرش فى سنة 1509م وغير دين البريطانيين من الكاثوليكية الى البروتستانتية ليتمكن من طلاق زوجاته، وفى نفس الوقت تقريبا غير الشاه اسماعيل الصفوي الذى جلس على العرش فى سنة 1501م مذهب الايرانيين السني الى المذهب الشيعي نكاية ومعاداة للعثمانيين السنيين. وهكذا يصح المثل: الناس على دين ملوكهم.

كان حلم السيطرة على العالم الاسلامي يراود العثمانيين. عندما استولى السلطان سليم الأول على السلطة التى انتزعها من أبيه السلطان بايزيد الثاني - يقال انه سمم أباه- وذلك فى سنة 1513 وبدأ باتخاذ اجراءات تعسفية فقتل الشيعة فى الأراضى التركية قتلا عاما انتقاما مما فعله الشاه اسماعيل الصفوي بالسنة فى ايران وسبب فى اندلاع الحرب مع الصفويين، خاصة وانهم ظهروا كقوة مناوئة للعثمانيين. وفى سنة 1514 هاجم سليم الأول الصفويين وهزم الشاه اسماعيل الصفوي، واستطاع الاستيلاء على ديار بكر والجزيرة والموصل واقترب من أطراف دولة المماليك وانتصر على جيوشهم فى الشام، واستولى على مصر التى حكمها العثمانيون لغاية سنة 1798م.

ذكر المؤرخ أحمد بن عبد الله الغرابي البغدادي فى تأريخه (عيون أخبار الأعيان) قال (( وفى سنة 941 هجرية (1534 م) توجه السلطان سليمان القانوني الى العراق فلما قرب من بغداد فر حاكمها الصفوي. وقدم السلطان بغداد فتلقاه أهلها بلا نزاع ولا جدال وأقام فيها ستة أشهر. أمر بعمارة قبة عظيمة على تربة الامام الأعظم أبى حنيفة النعمان، واخرى على تربة الشيخ عبد القادر الجيلي، وأجرى نهرا من الفرات الى قصبة كربلاء طوله خمسة فراسخ. ثم أتاه الخبر بأن الشاه طهماسب يطلب العفو والصلح فعفا عنه ورجع الى دار السلطنة)) انتهى

الاحتلال التركي
العهد التركي الأول
ويبدأ من احتلال سليمان القانوني لبغداد سنة 1534 الى احتلالها من قبل اسماعيل الصفوي سنة 1622، أي حوالي 90 سنة.

العراق فى العهد التركي الأول لا يعدو ان يكون مشروعا سلطانيا قاصيا وملكا غير ذى شأن. لقد تحول قلب الاسلام الى اسطنبول، بعد ان كانت هذه تعد أكبر منافسة نصرانية لبغداد المسلمة. كان الباشا رأس الحكومة المحلية فى بغداد تركيا، والقاضى تركيا، والدفتردار رئيس الادارة المحلية تركيا، والقاضي الذى كان رأس السلطة القضائية تركيا، وكلهم غرباء عن البلاد. وكانت الفرق العسكرية السلطانية من الينكجرية (الانكشارية)، يضاف اليهم فيلق من الجنود المحليين، وفريق من المجندين العشائريين المحليين عند الضرورة.


ونيطت واجبات الشرطة بالانكشارية حصرا. وكان خوف الباشا ببغداد من غضب السلطان التركي يحد من سلطته المستبدة وكذلك خوفه من الرأي العام الذى يمثله رسميا (الديوان) ndash; أي مجلس الوجهاء-، ومضافا الى ان قسما كبيرا من الأهلين كانوا لا يعترفون اولا بسلطته ايضا.

وكانت الشيعة فى المشاهد المقدسة وأبناء العشائر القاطنون فى الريف الخرب يقاومون بعنف السلطة القائمة ببغداد مقاومة ما لها من فواق. ولم يستطع الحكام الأتراك حتى فى اوج قوتهم واوائل عهدهم، التغلب على هؤلاء، ولم يكن للحكومة سلطان على مسافة اربعين ميلا من بغداد. وكان الوضع على حدود بلاد الفرس، وفى الأراضي الكردية التى لا سبيل اليها، أشد سوءا. ولعل معضلة الحكم فى العراق كانت منبثقة عن انتشار السكان الأقلاء المتمردين.

وفى سنة 1619م حدث حادث خاص بدأت به نهاية العهد التركي الأول، فانتقل الولاء من اسطنبول الى أصفهان. ففى عهد الوالى الضعيف (يوسف باشا) أصبح الحكم الحقيقي بيد احد الينكجرية (الانكشارية) قائد الجند المسمى (بكر)، وكان أحد الضباط (قنبر) يقوم بتدبير مكيدة على بكر أيام قيامه بحملة عسكرية على البصرة لازالة ملكه. ولكن سرعان ما عاد بكر الى بغداد وقتل قنبر وأعوانه جميعا. وقتل والى بغداد يوسف باشا برصاصة طائشة. وأصبح بكر سيد بغداد بلا منازع.

وفى ذلك الوقت صادف جلوس سلطان جديد فى اسطنبول، فانفذ اليه بكر رجاءا مدعوما بهدايا وفيرة، عسى ان يجعل حكمه على بغداد شرعيا. وخاب الرجاء فقد عين السلطان (سليمان باشا) واليا على بغداد. تحرك سليمان باشا وقواته صوب بغداد، فأرسل بكر الى الشاه عباس الصفوي سرا يعده بفتح ابواب بغداد له اذا ضمن له منصب الحاكم فيها. قبل الشاه العرض بشيء من الحذر وتجمع لذلك جيش فارسي على جناح السرعة ورابط على حدود العراق. وشعر سليمان باشا الوالى الجديد بذلك فقدم (الباشوية) الى بكر بدون تردد، فذلك أهون الشرين. فأصبح لزاما على بكر ان يتخلص من حلفائه الفرس، فأرسل الى القائد الفارسي المتربص على الحدود رسالة يمدحه فيها مدحا زائفا ومعها هدايا نفيسة، فأدرك القائد ما وراء الأكمة، فأرسل الرسل سراعا الى الشاه عباس الذى أرسل القطعات العسكرية من كل الأقاليم المجاورة لمساعدته، فزحف الى سهل العراق ومعه جند عظيم واستعد لمحاصرة بغداد.

وأطبق الفرس على الجانب الشرقي من المدينة وأرسلوا قواتهم العسكرية للاستيلاء على الكرخ. وسقط كثير من ضباط بكر صرعى فى اثناء المعركة. وصل الشاه عباس نفسه حيال المدينة وضيق الخناق عليها، ودام الحصار تسعة شهور، وكان السكان التاعسون بتضورون جوعا وعمدوا الى الفرار من طوق الحصار كل ليلة بتسلق الأسوار بسكون، ملقين بأنفسهم فى ايدي الفرس. ولم يستطع بكر ان يحول دون ذلك وان كان قد جمع من كان داخل المدينة من الفرس وصلبهم منكسين على الأسوار.

وكان محمد بن بكر قائد جند القلعة، قد مال الى جانب الفرس يأتمر بأمرهم وتوغل جند الفرس ليلة الثامن والعشرين من تشرين الثاني /نوفمبر 1622م بعلم منه الى القلعة والمدينة بأكملها، وكافأه الشاه بعد ذلك على خيانته لأبيه. ودخل الشاه عباس المدينة وأمر بقتل بكر وأخاه وأعوانه وقتل ضباط الحامية، وقتلوا وجهاء السنة وأعيانهم وعاد الشاه الى اصفهان.

وهوت حال بغداد مرة اخرى الى الحضيض الأوهد وانهارت المدارس والحياة الثقافية فى المدينة انهيارا نهائيا، وخرب جامع ابى حنيفة وجامع الشيخ عبد القادر، وتلت ذلك أيام شداد حتى عجز الناس عن تعمير بيوتهم التى هدمت فى اثناء الحصار. والى هذا المنهوى السحيق سقطت مدينة العباسيين العظمى. وانتهى العهد التركي الأول وبدأ الدور الفارسي الصفوي الثالث الذى استمرستة عشر عاما الى سنة 1638م.

السلطان التركي مراد الرابع يحتل بغداد
جلس مراد الرابع على العرش العثماني فى سنة 1623 وحاول مرتين الاستيلاء على بغداد دون جدوى، وفى كل مرة كانت بغداد تحاصر و تقصف أسابيع وشهورا بالمدافع التى تهدم البيوت على رؤوس ساكنيها الجائعين التاعسين، الذين أكلوا الكلاب والقطط من شدة جوعهم. وفى شهر آب/اغسطس سنة 1637 قرر السلطان ان يباشر الهجوم على بغداد بنفسه، وهدف لبغداد على جيش جرار فى السنة الثانية من حركته، وخيم خارج أسوار بغداد ونصب المدافع على ثلاثة تلال أعلى من سور بغداد ووضع على كل تل منها عشرين مدفعا. وفى فجر اليوم الثاني أخذت المدافع ترمى
المدينة، ودام الحصار تسعة وثلاثين يوما وفى اليوم الأربعين سقطت المدينة بيد الأتراك.

وقد أعانت الأتراك العشيرة المسماة باسم (ابى ريشة) المقيمة على الفرات، فقد أرسلت اليهم بقطار فى عشرة آلاف جمل محملة بالميرة.

وانتهى بذلك الدور الفارسي الصفوي الثالث (الأخير) فى سنة 1638م وانتهى حكمهم فى العراق ليقع تحت حكم الأتراك الى سنة 1917م حيث احتل البريطانيون بغداد.

القرون المظلمة
قبل الحديث على العهد التركي الثانى، ننقل هنا حرفيا ما ذكره العلامة الراحل الدكتور مصطفى جواد فى كتاب (دليل خارطة بغداد ) طبعة 1958م:
(( وقبل ان نختم بحثنا عن هذا العهد المظلم من تأريخ العراق وهو العهد الذىدام زهاء سبعة قرون يحسن بنا ان نستعرض بصورة اجمالية الأحوال التى شهدها العراق عامة وبغداد خاصة خلال عهد حكم الأتراك العثمانيين الذى استغرق زهاء أربعة قرون وقد ترك أثرا عميقا لا تزال مظاهره بينة فى معظم نواحى حياتنا العامة.


كان العراق منذ فتح السلطان سليمان القانوني بغداد وخصوصا بعد ان استردها السلطان مراد الرابع مستقلة استقلالا اداريا ويقوم بادارته وال مركزه فى بغداد، وكان منصب الوالى فى الدولة العثمانية خطيرا فكانت سلطته فى معظم الحالات تمتد الى كافة انحاء القطر العراقي، ويغلب عليه لقب الوزير. وكانت منطقة بغداد امارة كبيرة مستقلة فى شؤونها تسمى (ايالة) وتنقسم الى عدة ولايات وتضم فى أكثر الأحيان ولاية الموصل وكردستان والجزيرة. وكان الوزير مستقلا بادارة البلاد والجيش، مستبدا بحكمه وهو الذى يولى الولاة على سائر المدن المربوطة اداريا ببغداد. وكانت ايالة العراق وخصوصا بغداد فى حالة يرثى لها من التردى والانحطاط تحت حكم الولاة الذين كانوا يستبدل بهم بين حين وآخر بمعدل وزير فى كل ثلاثة أعوام، وفى بعض الحالات لا يستقيم الوزير أكثر من بضعة أشهر، وبعضهم لم يتح له مباشرة وظيفته أكثر من بضعة أيام حتى يعين غيره. وقد أصاب بغداد خلال هذده الفترة من تأريخها أنواع المصائب والأهوال بسبب استبداد الولاة الذين لم يكن ديدنهم غير جمع الأموال واستصفائها من الأغنياء وفرض الضرائب الثقيلة. والذى زاد فى المصائب تفشى الاضطراب فى الدولة العثمانية من جهة وعدم وجود قانون خاص بالبلاد يسير عليه الولاة من الجهة الأخرى فذلك مما ادى الى ان تحكم البلاد بما يشتهيه الولاة دون خشية من رقيب أو رادع. ولبعد العراق عن عاصمة الدولة العثمانية وصعوبة المواصلات بينه وبين القسطنطينية انتفض جماعة من الوزراء على السلطان وأعلنوا استقلالهم وذلك مما أدى الى نشوب حروب بينهم وبين سلاطين آل عثمان، وأصيبت بغداد بسبب ذلك بأنواع المصائب والنكبات والآفات، يضاف الى ذلك الحروب التى كانت تقوم بين الحكومة والقبائل، وبين القبيلة والأخرى، وبين الولاة أنفسهم طمعا فى الايالة، فكانت تؤدى الى وقوع فتن ومعارك فى المدينة. وهكذا كانت البلاد وخصوصا بغداد فى حالة سيئة جدا لا تستقر على قاعدة واحدة بل تتغير بتغير الولاة الذين كانوا يسيرون الأمور على حسب مشيئتهم فيقتلون من شاؤوا من أهل البلاد ويستصفون أموال من أرادوا من الأثرياء الا النادر منهم. ومن الكوارث التى حلت ببغداد حوادث الغرق العديدة التى كانت تحدث بين حين وآخر لعدم اهتمام كثير من اولئك الوزراء بمصالح البلاد ولاهمالهم شؤون السدود وتقويتها فأدى ذلك ال أضرار كثيرة فى النفوس والأموال.


وقد تجلى الظلم والاستبداد فى أجلى مظاهرهما فى المدة التى حكم فيها المماليك بين سنة 1749م وبين سنة 1830 م وقد استفحل أمر هؤلاء المماليك واشتد بأسهم فأثرى أكثرهم بما استولى عليه من أموال الناس، وقد انتفضوا على الدولة العثمانية فجلبوا لها بسبب ذلك أنواع النوائب والمصائب على أبناء البلاد. وكانت الايالة تمنح فى هذا العهد لمن اكتسب قوله نفوذا وكان له أعوان وأحزاب أو كان متفقا مع رؤساء القبائل، ومن هؤلاء من نال الولاية بالقوة فيضطر السلطان الى تسليم الأمر الواقع وتثبيته خوفا منه. ))

عاطف العزي

الأحداث المذكورة مستقاة بايجاز وتصرف من عدة مصادر أهمها:
بغداد مدينة السلام ndash; الجزء الأول ndash; طبعة سنة 1962
دليل خارطة بغداد ndash; 1958

فى الجزء السادس (الأخير): الحكم العثمانى (الدور الثاني) واحتلال البريطانيين لبغداد سنة
1917
الجزء الرابع