سركون بولص: الهديّة و الوصية للشعرية العربية.
بقلم نصر جميل شعث
كلّ شاعر نتجاوزه كشعراء نشعر بأننا أشعر منه. وكلّ شاعر يتجاوزنا نعاود قراءته مرارًا زاهدين أمامَه ومتواضعين بشعورنا أننا أشعر منه. وهذا الشقّ الأخير من الكلام ينطبق، مثلاً، على شعراء عرب أمثال أبو العلاء المعري والمتنبي وأبو تمام. إنهم يتجاوزوننا فيما يغدقون علينا ببركاتهم الفردانية الفريدة، ونعاود قراءتهم بحبّ عميق وغبطة عالية، مسافرين في وجدان كل منهما بمتعة، وعن حرص منا بتعميق انتمائنا لهم. هذا يجعلنا نتساءل كم من شاعر في هذا التدفق الحداثي للشعراء بالمعنى الزمني، نعاود قراءته بانتماء وجداني لشرف المعنى وعبوره الشامل المستغرق زمنَ الإنسان بجميع حواسه ونضج قضاياه الجمالية والإنسانية؟
الشاعر سركون بولص الذي رحل، الآن، عن دنيانا، هو من طراز أولئك الشعراء. إنه الشاعر الذي يتجاوز سياج امتداحنا لمواهبنا، تاركـًا فينا القمح بخفة الخجول المتواضع، بدلاً من النرجس. فلا تغادرنا بهجةُ بقائه مستغرقـًا فينا كشعراء نعاود قراءته، مِرارًا، عن شغف وانتماء لشعره الذي بلا بلاغةٍ؛ وإنما في سطوعِه التراجيديا العراقية والإنسانية الشاملة. نعاود قراءته، عن شغف وانتماء، لا عن إعجاب لحظيّ، ولا عن فرحةٍ بضوء البرق الذي يذهب قبل ذهاب الصفحة الثقافية لجريدة ما، عندما تضيء إصدارًا أو نصّا، في التو، وحسب، لشاعر ما. إذ ننتبه لأوّل مرة، ولا نعاود الانتباه لبرق الضرورة الصحفية!
إنه الشاعر الذي فعل في القصيدة ما فعله ويفعله سحر الشرق العتيق في النفوس جميعـًا. إنه سرّ ذاته، وسحر ذاته؛ بنكهة شرقية، لكنها كونية الإشراق والإغداق على أجيال عربية آن لها أن تقف إجلالا أمام هدايا الزمن الذي يبرهن، دائمـًا، والآن، عبر شاعر كـ سركون، بأنّ العراق نبع الشعر الصافي في هذا الشرق الحزين. فإذا كان الرجل قد رحل عن دنيانا، فإنّنا نشكر الزمن؛ لأنه أبقاه فينا بقاءَ الهدية والوصية. وأي هديّة أجمل من سركون للشعرية العربية، وأي وصية؟!!
نعم، في لحظة الحداد والاحتفاء وفوران ماء العيون، يليق بسركون يولص اسم quot;البوصلةquot; بكلّ ما في الكلمة من معنى. فهو لم يكن دليل ذاته إلى القصيدة وحسب؛ بل دليل الآخرين إليها. ويليق به وصفُ quot;الأيقونةquot; لكن الحرّة خارج الحماية الزجاجية أو الرخامية. لا أيقونة المؤسسة والكنيسة والحزب والسلطة، وإنما أيقونة الرصيف والطريق إلى القصيدة والحياة بالروح المتواضعة ذاتها، لا الطريق إلى الأبراج العاجية. إنه اليقين الشعري الشفاف، أيضاً، للأجيال التي بحثت عنه، وراحت تهتدي بـquot;البوصلةquot;؛ كلما زاد التورّط والتوهان في مفاهيم الحداثة الشعرية، والكم الكثير، وغير المتخصص، المثار حول كيفية كتابة قصيدة النثر.
بالاضافة لمجموعات سركون بولص المقروءة، في السنوات الخمس الأخيرة، اعتادت محررة فصليّة quot;مشارفquot; الحيفاوية الأستاذة: سهام داود، إرسال أعداد الفصلية بانتظام، من quot;حيفاquot; إلى quot;غزةquot;. كانت quot;مشارفquot; ذات هوى عراقيّ، تحوي - بل تركّز على - ملفات وقصائد لسركون بولص وفاضل العزاوي، مؤيد الراوي( من جماعة كركوك)، ولشعراء عراقيين كثر؛ بالاضافة إلى أدونيس وشعراء عرب أخرين شيبًا وشبانـًا. وفي ظل هذا التواصل، عبر المجلة، بين القارىء والشعراء - إذ الارتباط وحدَه بين الذائقة والقصيدة- كنت لا أرغب، عن سابق نية، في وضع الشعراء موقع المقارنة، لأن لكلّ شاعر نفَسه وطريقته. وإنما متابعة ما يكتبون. لكنني ما أن أفرغ من القراءة في ملفات كبيرة للشعراء؛ حتى أجد نفسي بلا حرَج أو تردّد، أقول أولاً:
دائمًا سركون يفوت الجميع بشعره الحيويّ. إنه الطفل والشابّ وشيخ الطريق الخاصة إلى القصيدة. إنه يرهبنا بجمال قصائده، إذ يتحرّك ويتدفق تحت طبقة سميكة من رهبة الليل والسكون السحيق، لتمييز الذئاب وتقدير الخوف، شعريـًا، من المجهول. مناجيًا الله والخليقة وتربة العراق والموتى والأسلاف، والجثث.
عند مطلع الفجر كنت بيقين السهران ونشوتهِ أرى سركون. إن شعره لغذاء كامل الدسم للذائقة.. وفي المساء أقول انطباعاتي لشاعر صديق يكبرني بنحو عشرين عامًا، ذا خبرة وتجربة في تتبع التحولات والبطولات الجمالية التي أحدثها شعراء اللحظة المعاصرة.
نعم، سركون بطل من أمهر أبطال اللحظة الشعرية العربية. قد يكون هذا الرأي صادر تحت تأثير الاندفاع العاطفي الذي يحدثه فينا فقدان الأحباء وموت الأبطال. ولكنني أراه رأيـًا منتميـًا لتلك الذائقة المتفقة القائلة ببساطة سركون السحرية وعفويته المفارقة للتركيبة العراقية القاسية. عفوية طفل يفعل بالقارىء ما تفعله الغبطة في نفس المحبّ لشاعره الجميل، لا المريد لشيخه الجليل، ولا المتزلّف بفبركات النقد للأولياء!
شكرا للزمن على الوصيّة والهديّة، وشكرًا لعراق الشاعر، وهنيئيـًا لشرق المعنى ما أعطى الزمن. وإن كان زمن السياسية يسلب ويشوّه جماليات العراق، الآن.
***
سركون بولص يضاعف انتباهنا
يحيى الشيخ
بعد غياب سنتين بين السعودية والبحرين، عدت الى بغداد في مستهل صيف 68.... سأعثر على الأصدقاء في أحد المقاهي، سأحدثهم عن البدو في الجزيرة العربية وصيادي اللؤلؤ في البحرين، أو أحدثهم عن البحر ..... تعانقت مع فائق حسين وجلست. سألني متى وصلت، وماكدت أفرش حديثي على الطاولة سحب سركون بولص كرسيا وانضم الينا.. عرّفني فائق له ... أسمه، جبينه الواسع، وجهه المربع وشعره السبل الكث تكشف أصله الآرامي. سألنا هل نعرف كم جناح للذبابة !! حاول فائق اصطياد واحدة ولكن عبثا فقد كشف سؤاله ضعف علاقتنا بالعالم و فضح حيرتنا ازاءه. أضاف quot; نقتل الذباب كل يوم لكننا لانعرف كم جناح لها... لقد واجهني سؤال في الامتحان هذا اليوم ولم أجب عليه لجهلي...quot; لم يكن سركون قلقا بشأن الامتحان بل بشأن طبيعة علاقتنا بالأشياء، وقدرتنا على الإنتياه لها، وعن مبرراتها ومبرراتنا. بعد حين مر بجانبنا نادل يسقي الماء أخذ فائق كأسا وسأله عن اسمه. قال اسما غريبا فسأله عن معناه أجاب أنه لايعرف. رد عليه سركون ربما تموت وأنت لا تعرف معنى اسمك ! رد الرجل : وما حاجتي بالمعنى ... !! قضينا الليلة حديثنا يجنح بين المعنى وجناح الذبابة. افترقنا ولم نلتقي حتى اليوم، لكني في كل مرة أقرأ شعر سركون بولص أعثر على ذلك المنتبه للعالم ولنفسه الذي لم ينس علاقته بالوجود عبر أصغر الأشياء وأكثرها ألفة. عثر سركون على مبررات وجوده في شعره وفي quot; سراديب سويدائه quot;. وعثرعلى معنى حياته في موته. كلنا سنموت ولكن من منا سيكتب مثل سركون هذا الشعر:
أحلم في آخر قطرة
ترشح من سدوله
بأنواع الهموم
بأنواع الهموم
............
تروندهايم/ النرويج
***
هذا هو درس سركون
بقلم باسم النبريص
لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب. كان سيد هذه الحقيقة التي جعلها عنواناً لإحدى قصائده، فعاش حياته طولاً وعرضاً. لا بمعنى انتهاب الملذات [ وقد أخذ نصيبه منها ] بل بمعنىوفاة سركون بولص شهادات في سركون بولص
أن تعيش حياتك كما تراها أنت وكما تريدها أنت، مهما يكن الثمن. بهذا المعنى تحديداً عاش سركون بولص ما قُدِّر له من سنوات على هذه الأرض. [ 63 ] سنة غير منقوصة، عاشها كما أراد، وكتبَ شعره خلالها كما أراد أيضاً. لم يقدّم تنازلات، لا في الشعر ولا في الحياة، فكان الفارقُ بين حياته وقصيدته، تقريباً في حدّه الأدنى، أو حتى غير موجود. فحياته، على خلاف معظم الشعراء العرب، تتماهى مع قصيدته وقصيدته تتماهى مع حياته، مثلما يتماهى الرِّي مع الماء.
لذلك لم أستغرب حين كلّمتني سهام داوود عن تفاصيل الأسابيع الأخيرة من حياة سركون. فهذا الرجل الشموس كان يتعامل مع المرض [ أو بالأحرى مجموعة الأمراض التي
| من اليسار: بولص، العزاوي، الراوي والجنابي (1993) |
زلت عليه فجأة ] كما الطفل. يقول له طبيبه الألماني : ممنوع السوائل، فيغافل طبيبه، ويغافل صديقه مؤيد، وينزل إلى الشارع ليكرع البيرة وأخواتها. ثم يعود فإذا كمية ما شربَ تنزل أوراماً في رئتيه وقدميه وباقي جسمه. يُقرّر الأطباء أن تُجرى له عملية قلب عاجلة في أمريكا، حيث هناك هو مُؤمّن صحياً، على عكس حاله في برلين، فيراوغ ويغيّر التيكت، زاعماً أنّ الأطباء صرفوا نظراً عن العملية.
تسرد لي سهام الكثير من التفاصيل المؤلمة، بقلبها المحروق، فأقول لها : هذا هو فعلاً السلوك الذي يليق بشاعر في حجم سركون. فما دامت كل القصة، أننا من التراب جئنا وإلى التراب نعود، فلمَ لا نعيش أيامنا الأخيرة، كما عشنا حياتنا كلها، كما نريد وكما نشتهي؟ لماذا يحرم سركون نفسه من الشرب مثلاً أو من أنواع محددة من الطعام، وهو يعرف أنّ ما تبقّى جدّ قليل؟ إنّ الطفل الأبدي الحكيم فيه هو الذي يجعله يتصرّف على هذا النحو، ثم ما جدوى سركون العظيم بلا طفله الأبدي؟ وما جدوى الشعراء بلا طفولتهم الخلاقة؟
لقد كان شاعراً عظيماً في إهاب إنسان عظيم، لذا لم يتذلل أمام مرض ولا خضعَ لإكراهات هذا المرض. لذلك، أنا راضٍ يا سركون [ إن كان للرضا من مطرح في هذا المقام ] لأنّ رحلة الآلام المبهظة لم تستمر طويلاً.
صدّقني يا صديقي، كنت خائفاً عليك، من ذلّ المرض ومن سيكلوجية المرضى إذ يطول بهم مرضهم. فمثلك لا يليق به المرض ولا يستطيع أن يتعايش معه. آخرون غيرك يفعلون ذلك، أما أنت فلا.
وعليه فلم أُصدم بنبإ وفاتك، الذي تلّقيته في الرابعة إلا ربعاً بتوقيت فلسطين، بعد قيلولة تخللتها تهويمات. وممن؟ من صديق عمرك الجنابي في إيلاف. فقد كنت آمل ألا تطول بك الرحلة السوداء، فقط لكي لا يطول عذابك وعذاب صديقك الأوفى مؤيد الراوي وزوجته العظيمة فخرية.
وها هو ما كنت أتوقعه يحدث. مات سركون. مات الشاعر الأكثر مظلومية نقدية في المشهد الشعري العربي طوال قرننا الماضي. مات الذي كتب قصيدة النثر كما لم يكتبها عربي من قبله. مات الذي أراد لشعرنا العربي أن يتغيّر جذرياً، في مبناه ومعناه ورؤاه، كي يكون كونياً، وأشهد أنه نجح في مهمته الفدائية هذه، أكثر من سواه.
فنحن قبل شعر سركون شيء، وبعده شيء آخر. لذا فنم مطمئناً يا صديقي : لقد أنجزت وحدك مهمة كبرى لا ينجزها أحياناً جيلٌ أو حتى أجيال. ولئن تأخّر الاعتراف بما اجترحتَ، فلخللٍ بسيط في نزاهة نقادنا ليس إلا. فأنت كنتَ نموذجاً للشاعر الفرد، الذي يكتب قصيدته بكل عمره ويمضي. ولم تكن مؤسسة يتكأكأ على أبوابها النقاد والشعراء.
مِتَّ؟ نعم، ولكن بعد أن عشت حياتك كاملة وغير منقوصة وإلى آخر لحظة.
مِتَّ نعم، ولكن بعد أن كتبت ما لم يكتبه سواك من الشعراء العرب.
أما نحن من بعدك فلنا درسك : أن نعيش حياتنا [ بوهيميتنا ] ونكتب ولا نقدم تنازلات.
وشيء أخير، شخصي ربما، وهو مناشدة للكبير مؤيد الراوي أن يُدفن هذا الشاعر العظيم في تراب برلين لا في أمريكا. فسركون كما عرفته في لوديف عبر أحد عشر يوماً وعشر ليال كان يضيق ذرعاً بحياته اليومية في أمريكا. ولذلك أظنه [ ما دام لم يكتب وصية ملزمة ] يفضل تراب برلين على تراب سان فرانسيسكو. لا أعرف لمَ أحدس بأنه يُفضّل ألمانيا على أميركا. فلعلّه حين غيّر تيكت الطائرة، قبل أيام، وتغاضى عن رحلة العودة إلى أمريكا، مفضّلاً البقاء بجوار أصدقائه في برلين، كان يحدس بقرب الأجل. وكان قد قرر في تلك اللحظة الوجودية الفارقة أن تكون برلين هي المحطة الأخيرة للمنفي الأبدي. على الأقل ثمة في برلين أصدقاء، لم يكن له مثلهم في أمريكا.
ليرحمه الله.













التعليقات