قراءة سايكو-سوسيولوجية
(رسالة ماجستير)
جلال زنكَابادي: ظل الكاتب المبدع الكبير جليل القيسي(1937-2006) مهمشاً ومغبوناً إلى حد ملحوظ، إبان العهد العفلقي الفاشي الشوفيني؛ إذ لم تنل أعماله القصصية والمسرحية ماتستحق من دراسات ونقود أكاديمية وغيرأكاديمية إلاّ النزر اليسير؛ ولاتخفى الأسباب على أيّ معني أو مختص لبيب وحصيف.
والآن هي ذي رسالة الماجستير الرابعة-على حد علمي- تتناول أحد جوانب أدب جليل القيسي، أما الثلاث السابقات لها، والتي تناولت أدب القيسي من زوايا ووجهات نظر أخرى فهي:
1-السرد في قصص جليل القيسي القصيرة، جاسم محمد جودة/ بإشراف الأستاذ الدكتور فائق مصطفى احمد/كلية التربية-جامعة الموصل، سنة 1998.
2- القصة القصيرة عند جليل القيسي- دراسة نفسية وفنية، سنان عبدالعزيز عبدالرحيم/ بإشراف الأستاذ الدكتور صالح علي حسين الجميلي/ كلية التربية-جامعة تكريت، سنة 2000.
3- عالم جليل القيسي القصصي-دراسة نقدية في فنه القصصي، خالد علي ياس/ بإشراف الدكتور شجاع مسلم العاني والأستاذ المساعد وليد شاكر نعاس/كلية التربية- جامعة ديالى، سنة 2005.
ولعل المبهج في هذه المرة أن ينبري طالب كردي لدراسة جانب من جوانب أدب القيسي؛ فمثل هذا المسعى ينضوي بطبيعته تحت خيمة الحوار الثقافي المثمر والمنشود؛ في سبيل تعزيز وترسيخ الفهم المتبادل بين أبناء القوميتين الشقيقتين إبتداءً بالإنتلجنسيا...خصوصاً وإن نوزاد أحمد أسود ليس طالباً عادياً(مسلكياً) أو متطفلاً يتغيّا نيل الشهادة بموضوع يختاره بالصدفة أو يفرض عليه، وإنما هو أديب(مقالي، ناقد ومترجم) بل ولهان بعالم القيس وقد ترجم مجموعته القصصية(مملكة الإنعكاسات الضوئية) إلى الكردية قبل قرابة عشر سنوات، ومن هنا فهو ملم ومحيط بموضوع دراسته إلى حد كبير؛ مما مهّد ذلك سبيل نجاحه المشهود بدرجة(87%)(جيد جداً) عن رسالته الموسومة(المدينة في قصص جليل القيسي، قراءة سايكو-سوسيولوجية) والتي جرت مناقشتها بتاريخ 10/3/ 2008 في كلية الآداب جامعة السليمانية/ اقليم كردستان العراق، من قبل لجنة تألفت من السادة:
أ.د.ظاهر لطيف كريم (رئيساً)، أ.م.د.لطيف محمد حسن (عضواً)، أ.م.د.نيان نوشيروان فؤاد (عضواً) و أ.د.فائق مصطفى احمد (عضواً ومشرفاً)
لئن أشرت أن الباحث نوزاد أحمد ملم ومحيط بمجال بحثه المختار؛ فدليلي هو فهرست مصادره ومراجعه، التي بلغت(أكثر من 190مصدراً ومرجعاً بين كتاب ومجلة وجريدة ورسالة ماجستير..) بالإضافة إلى شمولية وعمق تحليلاته؛ فقد إستند مصدرياً إلى مجموعات القيسي القصصية الأربع:
1- صهيل المارة حول العالم، بيروت 1968.
2- زليخة البعد يقترب، بغداد 1974.
3-في زورق واحد، بغداد 1985.
4- مملكة الانعكاسات الضوئية، بغداد 1995.
مع عشرين قصة أخرى متناثرة على صفحات المجلات: الأقلام، آفاق عربية،الموقف الثقافي، الاديب المعاصر، سردم العربي(السليمانية) وباريش(الأربيلية)
وكذلك إلى الحوارات المجراة مع القيسي من قبل:جلال وردة زنكَابادي، جريدة (الجمهورية) البغدادية، 21\5\1972.و المحرر الفني في مجلة (الثقافة) البغدادية، العدد السابع، تموز 1974.و رعد مطشر، مجلة (الاقلام) العدد الثاني 1999.ونوزاد أحمد أسود، مجلة (سردم العربي) (السليمانية). العدد السادس، خريف 2004.و جريدة (الأديب) البغدادية.العدد (70)، آيار 2005.وكذلك رسائل الماجستير الثلاث في أدب القيسي والمذكورة أعلاه.
أما مراجعه التي ناهزت المائة والأربعين، فهي من أهم المراجع(المؤلفة والمترجمة) المتعلقة بمجال البحث بشموليته: اللغة، الشعر، الفنون السردية،النقد الأدبي،السوسيولوجيا، السايكولوجيا، الميثولوجيا،الديانات، التاريخ والجغرافيا.....والتي تدل على مدى إنفتاح العقل الثقافي الكردي على الثقافات الأخرى..ورغم ضيق الفسحة المتاحة هنا لاندحة من ذكر بعضها(الأقرب لموضوع البحث)مع إعتذاري الجم للمترجمين الأفاضل لعدم ذكر أسمائهم:
جماليات المكان في روايات جبرا ابراهيم جبرا،أسماء شاهين/ كركوك نامه، د. توفيق آلتونجي/ جماليات المكان، جاستون باشلار/ ظهور الكورد في التاريخ، د. جمال رشيد احمد/ فلسفة المكان في الشعر العربي- قراءة موضوعاتية جمالية، د. حبيب مونسي/ الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، د. حسام الآلوسي/ حركية الابداع، د. خالدة سعيد/ ميثولوجيا الخلود، د. خزعل الماجدي/ معجم علم الاجتماع، دينكن ميشيل/ المدينة في القصة العراقية القصيرة،رزاق ابراهيم حسن/ سوسيولوجيا الادب،روبير اسكاربيت/ علم اجتماع الادب، د. سيد البحراوي/ المدينة دراسة في علم الاجتماع الحضري،د. السيد الحسيني/ جماليات المكان في الرواية العربية،شاكر النابلسي/ التبئير الفلسفي في الرواية-مقاربة ظاهراتية في تجربة سليم بركات، د. شاهو سعيد/ البناء الفني في الرواية العربية في العراق، ج2، الوصف وبناء المكان/ الردود السلبية للمدينة المعاصرة، د.طارق ابراهيم حمدي/ د.عبدالحميد المحادين، جدلية المكان والزمان والانسان في الرواية الخليجية، د. عبدالحميد المحادين/ حدود كردستان الجنوبية تاريخيا وجغرافيا خلال خمسة آلاف عام، عبدالرقيب يوسف/ التعايش السلمي بين الكرد والتركمان في مدينة كركوك، عرفان كركوكي/ التفسير النفسي للادب، د. عزالدين اسماعيل/ الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان،د.علي ابراهيم/ في النقد الادبي الحديث-منطلقات وتطبيقات، د. فائق مصطفى و د. عبدالرضا علي/ الروح الحية ndash; جيل الستينات في العراق، فاضل العزاوي/ توظيف الاسطورة في القصة العراقية الحديثة، فرج ياسين/ دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر، قادة عقاق/ كركوك وتوابعها حكم التأريخ والضمير، د. كمال مظهر احمد/ مقدمات في سوسيولوجية الرواية، لوسيان غولدمان/ النقد التحليلي النفسي، مارسيل ماريني،ضمن (مدخل الى مناهج النقد الادبي) تأليف مجموعة من الكتاب/ رواية الاصول واصول الرواية-الرواية والتحليل النفسي،مارت روبير/ المدينة الفاضلة عبر التاريخ،ماريا لويزا برنيري/ الريف في الرواية العربية،د. محمد حسن عبدالله/ التنوع الإثني والديني في كركوك، محمد حسين الشواني/ ثنائية المكان-الاغتراب في أدب الرواقصصي،محمد ذنون الصائغ/ الرواية واليوتوبيا،محمد كامل الخطيب/ ثريا النص-مدخل لدراسة العنوان القصصي،محمود عبدالوهاب/ مدخل الى سوسيولوجيا الادب العربي،محيي الدين أبو شقرا/ المدينة في الشعر العربي المعاصر،د. مختار علي ابو غالي/ التخلف الاجتماعي-مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور، د. مصطفى حجازي/ اشكال الزمان والمكان في الرواية،ميخائيل باختين/ ملامح من الأسطورة، ميرسيا ايلياد/اتجاهات جديدة في علم الاجتماع، ميشيل هارالامبوس/ الرواية والواقع، ناتالي ساروت و الان روب غرييه و لوسيان غولدمان/ نشوء وتطور الفكر النفسي-الاجتماعي عند العرب، د. نزار عيون السود/ النزوع الاسطوري في الرواية العربية المعاصرة، د. نضال الصالح/ منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي،د. نوري الطالباني/ إشكالية المكان في النص الادبي، ياسين النصير/ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي،يمنى العيد/ إدوارد سعيد، التلفيق الذاكرة والمكان، مجلة (الكرمل) ع(70-71)،سنة(2001 / د.حسين حمزة حمود الجبوري، الاحتفالية في النص القصصي عند جليل القيسي،مجلة (الموقف الثقافي)، ع (25)، كانون الثاني وشباط 2000/ رزاق ابراهيم حسن، كركوك جليل القيسي، صحيفة الزمان (ألف ياء)،ع 2472، 8/آب/2006/ سليم تماري، المدن الصغيرة وثقافتها القامعة، مجلة (الكرمل).ع (80)، السنة (2004)./ فؤاد التكرلي، هل الرواية ابنة شرعية للمدينة؟ جريدة (الثورة)، (بغداد)24\12\2002/ د.فيصل دراج، حداثة بودلير ومرايا المدينة الحديثة، مجلة (الكرمل) ع (83) سنة 2005/ و قيس كاظم الجنابي، الذاتي والاسطوري في quot;مملكة الانعكاسات الضوئيةquot;، مجلة (الموقف الثقافي) ع (23)، ايلول وتشرين الاول 1999.

لقد أكد الباحث على ان القصة القصيرة قد غدت في العصر الحديث جنسا ادبيا متميزاً في الادب الغربي، ومن ثم في الأدب العربي، بعدما تطورت على مراحل عدة وتبلورت أساليبها وتقنياتها الخاصة. وان الفن القصصي حديث النشأة بالمقارنة مع الفنون الادبية العريقة كالشعر والمسرح، وقد أنتجه عصر الحداثة في اوروبا، ثم إنتشر لاحقاً في معظم بلدان العالم. ولئن كانت القصة القصيرة هي الوليدة الشرعيية للمدينة؛ فقد صحّ نعت بض الباحثين بأنها فن مديني، أفرزته المدينة الحديثة؛ كيما تعبر به عن حياتها وأحلامها وطموحاتها وخيباتها؛ وعليه فقد إختار الباحث عنصراً رئيسا ومهماً، من عناصر القصة القصيرة، ألا وهو المكان بصورة عامة، والمدينة بالأخص؛ لصلتهما الوثيقة بهذا الفن الحديث وبالحداثة عموماً.ثم إن المكان في الفن الروائي والقصصي من الدعائم المهمة التي يرتكز عليها الفن القصصي والروائي،وجليّ أن المكان قد يضيق في القصة القصيرة ويتحدد بسياقها، وغالباً ما يكون ذا مساحة ضئيلة قياساً بالمكان في الرواية، حيث نجده أحياناً يمتد ويتوسع ضامّاً مدينة بأكملها، وربما مدناً وأمكنة أخرى.ومن هنا فإن المدينة كمكان في القصة والرواية، لها الحضور الكبير والتأثير في مصاير الأبطال والشخوص؛ لذا فهي تستحق الإهتمام والدراسة..وعليه فموضوع المدينة في القصة القصيرة جدير بالبحث والتحليل، لاسيما في عالم قاص كجليل القيسي.
ولقد إستقصى الباحث مدى اهتمام القاص القيسي بالمكان في بنى قصصه، وبالمدينة على وجه الخصوص، حيث كرّس المدينة كعنصر سائد في جل قصصه، موظفاً شتى أشكالها بؤراً للأحداث الدائرة فيها، إلى حد يمكننا القول: quot; إنه كاتب مديني بامتيازquot; ولقد علل الباحث إختياره لدراسة المدينة في عالم هذا القاص؛ لمتابعته المتواترة لنتاجاته كافة،وقربه من اجواء عالمه القصصي، ودرايته الشخصية بالأمكنة الكائنة في قصصه، فضلا عن المكانة المرموقة التي يحتلها القاص في كلا المشهدين القصصيين العراقي والعربي المعاصرين.

يتكون البحث من تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة إستنتاجية، وقسّم كل فصل على مبحثين. ففي التمهيد بيّن اهمية المنهجين النفسي والاجتماعي في الدراسة الأدبية، لاسيما في تحليل النصوص الادبية، وركز على أهمية تضافر المنهجين في قراءة النصوص؛ لصلة شخصيات القصص بكلا المستويين النفسي والاجتماعي. كما نوّه في التمهيد بالمصطلحات النفسية الموظفة في مقاربات القصة والرواية، كالشعور واللاشعور، أو الوعي واللاوعي الجمعي والحلم واحلام اليقظة. ثم خصص الفصل الاول مدخلاً نظريا لطرح أهمية المكان في الأدب بصورة عامة ضمن مبحثه الاول، وفي مبحثه الثاني تناول تجليات المدينة في العلوم الاجتماعية وفي الأدب بصورة خاصة. وفي الفصل الثاني(وهو تطبيقي) تحدث في مبحثه الاول عن المدينة كمكان معاد في قصص القيسي، وفي المبحث الثاني عالج المدينة كمكان أليف، بشقيها المدينة/الحلم، والمدينة الاسطورية. اما في الفصل الثالث، وهو تطبيقي ايضا، فقد تناول في المبحث الاول مدينة كركوك في قصص القيسي بصورة عمومية، وفي المبحث الثاني عُني الباحث بمدينة كركوك بصفتها مدينة ذات تنوع إثني، وتسامح وإخاء، كما تتجلى في قصص القيسي.
بما أن للإنسان بعدين: بعداً ذاتيا وبعدا موضوعيا، أو بعدا نفسيا وبعدا اجتماعيا، وبما ان علاقة الانسان بالمدينة علاقة نفسية واجتماعية في القت نفسه؛ فقد وجد الباحث بالضرورة أن يستخدم المنهجين النفسي والاجتماعي لقراءة ثيمة المدينة في قصص القيسي. ان قراءة النصوص الادبية من منظور سايكولوجي، تفتح بطبيعتها ابوابا واسعة لرؤية الخفي ولقراءة ما لم ينطق به النص ظاهرياً، ضمن العلاقة الموجودة بين الاسلوب السايكولوجي والسلوك الانساني. فثمة علاقة مباشرة في العملية الابداعية بين الدوافع الداخلية والخارجية، إلاّ أن المبدعين يتأثرون كثيرا بالدوافع الداخلية، وهي دوافع لا تكفي بحد ذاتها في عملية الخلق. ذلك لانهم لا يكتبون تحت تأثيرات ذاتية حسب، بل استجابة لما يدور حولهم ايضا. من هذا المنظور تناول الباحث، المكان/المدينة من وجهة نظر المنهجين النفسي والاجتماعي، لأن المعاني التي يسبغها الانسان على المكان/المدينة ليست اجتماعية بحتة، بل تتغير بتغير التحولات النفسية التي تطرأ على الشخصية المحورية في القصة. وهنا يتساءل الباحث: quot; هل المكان/المدينة له بُعد موضوعي بحت بمعزل عن ذاتية الانسان واسقاطاته النفسية؟ أم له بعد ذاتي ايضا؟ أم انه خاضع للتجربتين الذاتية والموضوعية في الوقت نفسه؟quot;
وكما أسلفنا فقد وظف الباحث في قراءته التحليلية مصادر ومراجع عربية واجنبية مترجمة وما كتب في الدوريات والمجلات المتخصصة، منها ما يتعلق بالمكان في الادب، ومنها ما يتناول تجليات المدينة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والادب، ولاسيما في القصة والرواية، في عدد لابأس به من الكتب. فضلاً عن مراجع أخرى خاصة بحضارة وادي الرافدين؛ لأن القيسي يستوحي في العديد من قصصه عوالم السومريين والبابليين والكوتيين والآشوريين. وكذلك اعتمد الباحث على بعض المراجع التاريخية التي تتناول كركوك في العصور القديمة.
كما استفاد الباحث، من ثلاث رسائل جامعية تناولت ادب جليل القيسي من زوايا ومنظورات مختلفة،ومع ذلك يعترف الباحث: quot; لكننا عانينا، رغم ذلك، شحة الحصول على المراجع المهمة بسبب حداثة الموضوع وقلة الكتب المترجمة عنه، خاصة تلك المتعلقة بالمدينة في الأدبquot; ويضيف: quot;وكم كنا نتمنى ان نحاور القيسي ونعلمه بجوانب عملنا في هذه الرسالة، ولكن، للأسف الشديد، وافته المنية عند شروعنا بالعمل، وبذلك فقدنا مصدراً اساسا ومهما من مصادر بحثناquot;
وفيما يلي نص (نتائج البحث)-وهو بيت القصيد- بقلم الباحث نفسه؛ لعله يجدي القراء والقارئات والمعنيين والمعنيات أكثر من تلخيصه:

{عُني البحث بالمدينة، محوراً رئيسا في دراسة قصص الراحل جليل القيسي وتحليلها، حيث احتلت المدينة مكانة مميزة في حياته الشخصية وفي نتاجاته، القصصية على وجه التحديد، فقد ولد وعاش وتوفي في مدينة كركوك دون ان يغادرها يوما، الأمر الذي أدّى الى تأثير هذه المدينة في سايكولوجية القاص، تأثيراً عميقاً، بل إحتلت جُلّ حياته وذهنه وجسده، وانعكس هذا التأثير في معظم قصصه. لقد كان اهتمامه بالمكان عنصراً مهما من العناصر القصصية، اهتماما بالغا، ولمسنا هذا الاحساس بالمكان في تقنية عدد كبير من قصصه، اما اهتمامه بالمدينة-بأشكالها المختلفة- فجاء على نحو اكثر بروزا وتألقا فيها، فطرحت بوصفها عنصرا فاعلا في سايكولوجية الشخصيات المحورية في قصصه وتأثيرها الاجتماعي.
توصلنا، خلال قراءتنا لجميع نتاجاته القصصية، الى أن هناك ثلاثة مستويات في التعامل مع المدينة، موظفة بتقنية حديثة في قصصه، المستوى الاول: المدينة رافضة للشخصية المحورية، او العلاقة التنافرية والمعادية بين المدينة من جهة، والبطل من جهة ثانية. سمينا هذا المستوى: المدينة مكانا معاديا، وخصصنا مبحثا لدراسته. والمستوى الثاني: المدينة مكانا تقليديا لانحصل منه الا على اشارات للمكان بلا روح ولا رمز، لهذا لم ندخله في مجال بحثنا. اما المستوى الثالث، الذي توقفنا عنده مطولا، فهو المدينة الأليفة، او المدينة الحانية وعلاقة التآلف والتناسق بين البطل والمدينة، والتماهي بينهما، وقد وجدناها في عدد كبير من قصصه، لهذا خصصنا مبحثا لهذا المستوى.
توصلنا، في هذه الدراسة، الى نتائج واضحة، ولاسيما في جانبها التطبيقي وفي تحليل نصوص القيسي القصصية، ووجدنا ان للمدينة أشكالا وأوجها مختلفة، ففي بدايات قصصه كان للمدينة تأثير سلبي في سايكولوجية البطل، بمعنى ان المدينة كانت معادية فيما يخص القاص/البطل، اذ يحس البطل، في هذه العلاقة المعادية مع المدينة، بإغتراب نفسي واجتماعي كبير.
لمسنا هذا الإغتراب في الحالات النفسية المضطربة لدى البطل وفي علاقته العدائية مع الآخرين ومع المجتمع، اذ غالبا ما يأتي هذا العداء من اشخاص يتعامل معهم البطل في المدينة، أي أن العلاقة المعادية مع المدينة، هنا، ليست معادية تجاه المدينة بحد ذاتها، بل تجاه العناصر الفاعلة والمؤثرة في المدينة، وهي المجتمع وسكان المدينة. لذلك وجدنا في بعض قصصه ان البطل يتشبث بالمدينة على الرغم من القسوة التي يتعرض لها من لدن سكانها، وفي الاخير يضطر البطل الى تركها، اذ صور القيسي، الطابع القدري لبعض ابطاله في المدينة، ليعبر عن سخطه تجاه مايجري من تشويه وتدمير للحياة الانسانية، وليعطينا صورة عن الإغتراب الذي يعيشه الانسان المعاصر، وهو يشعر بالإستلاب بفعل ظروف خارجية، اذ ينتاب ابطال قصصه إغتراب شديد، تضطرب، من جرائه، حالتهم السايكوسوسيولوجية.
لكن المدينة تتجسد، في قصصه اللاحقة، مكانا أليفا، حيث الألفة الدافئة والمحبة المتبادلة بينها وبين القاص/البطل، اذ يدخل الراوي/البطل خلال مخيلته، في المدينة/الحلم حينا، وفي المدينة الاسطورية حينا آخر، لإضفاء تلوينات أخرى على الواقع، منطلقا من مدينته الواقعية التي أحبها كثيراً.
رأينا ان المدينة/الحلم والمدينة الاسطورية تدخلان في تماه عميق مع المدينة/الواقع، اذ يتخذ القاص/البطل من الحلم جناحين كبيرين ليحلق في سماء مدينته الحلمية والأسطورية، وفي سماوات مدن اسطورية وحلمية اخرى، ذلك لأن المكان في الأسطورة شاسع بإمتداداته اللامتناهية، وغير محدد بأرض أو مدينة، وحتى بزمن، حيث يمتد في العديد من الأساطير ليضم عوالم غير عوالمنا التي نعيش فيها.
رأينا في قصص القيسي، تعانق فضاءات مدن تاريخية واسطورية ببعض، اذ يهرب البطل في بعض قصصه الى أمكنة خيالية ومدن أسطورية أو تاريخية، خوفا من السلطة السياسية، اي ان المدينة الأسطورية والحلمية، تأتي نتيجة الهروب من المدينة الواقعية، وبسبب القسوة التي يتعرض لها البطل، ولاسيما تلك القصص التي تحمل نقداً أو تعرية للواقع السياسي والاجتماعي المعيش. وبذلك تكون المدينة/الحلم والمدينة الاسطورية، مكانين أليفين، المدينة البديلة التي يلجأ اليها القاص فزعا من تردي الظروف السياسية والإجتماعية.
وفي الوقت نفسه وجدنا ان للمدينة، -مكان أليفا-، تأثيرا كبيرا في إحساس البطل/القاص، اذ جعلته احساسا مشتعلا دافئا تجاه مدينته الحبيبة التي عاش فيها بعمق وحب كبيرين، بل ويسميها باسمها الحقيقي، وهي هنا كركوك الحديثة وآرابخا القديمة.
لقد حظيت هذه المدينة، في قصص جليل القيسي، بكمّ وافر من الاهتمام والمتابعة الدقيقة، اذ كتب عن أدقّ تفاصيلها عارفا كل طور من أطوار تأريخها، ولمسنا من خلال قصصه أن علاقته بمدينة كركوك علاقة روحية وثقافية وجغرافية، فهو مغروس بكل كيانه في هذه المدينة، انها في وجدان القاص/البطل مثل الحياة نفسها لا غاية البتة خارجها.
لقد تجلى في قصص القيسي، مقت القاص وكراهيته للتعصب الديني والإنغلاق العرقي، فهو كثيرا ما كتب عن مدينة كركوك، مجسدا تنوعها الإثني والديني، والتعايش والتسامح والوئام الذي كان ملتصقا بهذه المدينة في حياتها الواقعية والإجتماعية}.
وختاماً أتمنى، بل وأقترح أن ينبري هذا الباحث الدؤوب أو سواه ممن يتميّز بالإلمام والإحاطة والمؤهلات الضرورية لدراسة(التناص في أدب جليل القيسي)؛ لكون عالم القيسي- بأغلب قصصه ومسرحياته- حقل هائل للتناص، ولانظير له في المشهد الأدبي العربي المعاصر، في هذا المجال.




بطاقة تعريف
*نوزاد أحمد أسود
-تولد 1962 كركوك
- بكالوريوس لغة عربية(1986-1987) كلية الآداب/جامعة صلاح الدين.
- قبل في دراسة الماجستير بجامعة السليمانية سنة 2005
- يكتب باللغتين العربية والكردية ويترجم عنهما.
- أصدر 12 كتاباً مؤلفاً ومترجماً باللغة الكردية، في شتى شؤون الأدب والنقد والفكر
- أصدر (نصوص كردية حديثة- قصائد وقصص)مترجمة إلى اللغة العربية.
- يعمل مدير تحرير مجلة (سردم العربي) الصادرة عن دار سردم للطباعة والنشر في السليمانية.
- عضو في اتحاد الأدباء الكرد.
- عضو في نقابة صحفيي كردستان.