تيسير عبدالجبار الآلوسي: أحمد شرجي ممثل عراقي جمع بين غواية التمثيل هواية وعشقا وبين احترافه أداءَ َ ودرساَ َ أكاديمياَ َ.. وإذا كان معروفا أنَّ الموهبة والغواية لا تكتملُ وتلمع إلا بالدّرس العلمي وزخمِ المعارف والخبرات، فإنَّ هذا يصدقُ تماما وبتميِّزِ ِ ملموسِ ِ في حالةِ الفنان المبدع أحمد شرجي. فلقد أضفى لموهبته وعشقه فن التمثيل خبراتِ ِ عمليةَ َ وعلمية أكاديمية عبر مواصلة الدرس والقراءة المعرفية النظرية بخاصة في طريقِ ِ حفل بثراء التنوع في مسيرة مسرحية احتفالية مرّت بشرق أوروبا في زاهر إنتاجها المسرحي في نهايات القرن المنصرم ومن ثمَّ الانتقال الأخير إلى حيث المسرح الغربي ممثلا في معايشة فعلية له في النموذج الهولندي...
مدارس مسرحية عديدة يَطـَّلعُ عليها [أحمد] عبر أساطين الفن المسرحي العربي المعاصر في العراق ومدارس أخرى في شرق القارة الأوروبية وغربها.. وعلى الرغم من كون المبدع أحمد شرجي ما زال شابا بقياسات سني العمر فإنَّه بمثابرة جدية من البحث والعمل وفي تلك المساحة الزمنية الكثيفة من العمر بدأ يضع لمساته الخاصة ونقاطا ستظل مخصوصة بجهده واسمه... وذلكم ليس بغريب على الإبداع والمبدعين في مجالات الفنون والآداب؛ فـهم الشرارة التي سرعان ما تلتهب مضيئة في ومضة من الزمن ليبقى ذياك البصيص من النور شعلة أبدية في عالم الجمال...
لمن يريد التمعن في سحر الأداء المسرحي إبداعا لا وظائفيةَ َ آلية جامدة، يمكنه أنْ يتابعَ بقعة ضوء ساحرة تتحرك بإيماءاتها وبتلوناتها الدالة المشحونة بمعجم طلسمي يتجدد مع أعين الفرجة المسرحية ويُغتـَنـَى ويُتغـَنى به، وذلكم هو أحمد شرجي.. ومن هنا سيكون لنا سبب لتفسير التصاقه نقديا تنظيريا وهو يتحدث عن quot;ممثلِهِ الباحثquot; وعلاقته الروحية الحية بالضوء والألوان على الركح... لكن دعوني هنا أشخِّص بعضا من قراءة سريعة موجزة في نموذج ِ ِ من إبداع أحمد وهو يُحيِي شخوصه بين جنبات المسرح؛ ففي ذلك بعض ما يحيلنا لدعوته التنظيرية لمصطلح الممثل الباحث...
ففي quot;الجرافات لا تعرف الحزنquot; كان لنا لقاء مع ملحمة من زمننا وكان أحمد شرجي في المسرحيةِ الملحمةِ مبدعاَ َ بهوية مخصوصة وإذا ما تجاوزنا التشريح الأول ومعطيات النصِّ فيه فإنَّنا ينبغي أنْ نسجلَ ما للمسرحية من تلوينات عديدة. ففيها جماليات ذلك الوجد وتلك المشاعر حيث يتحول الحزنُ والألمُ والموت إلى أمل بالحياة وثقة بالفرح القابل وإلى ولادة جديدة تمحو الماضي المتعَب المثقَل بالهمّ..
ولأن بنية مسرحية الفصل الواحد كما في quot;الجرافات...quot; هنا، عادة ما تعتمد توظيف المناظرة أو الجدل وquot;المونولوجاتquot;: وعادة ما تكون المناجاة وسيلة درامية رئيسة فقد اختارها أحمد شرجي مادة لمبضعه التحليلي تشريحا ومن ثمَّ إبداعا في جماليات فن الممثل وهو يُحيِي شخصية فيها على الركح. وينبغي هنا أنْ نلاحظ آليات توزيع فعل التمثيل إذ يتركز فعل [شخصية] العجوز في تأثير الكلمة ـ العبارة فيما تركـَّزَ فعلُ المحقق بفعله الفيزيائي على الركح. ولقد جسَّد المخرج\الممثل [أحمد شرجي] هذا الانقسام على عالمين بهذه التوصيفات ليفصل بين العالمَين بأعمق ما يكون الانفصال والتضاد والاصطراع بينهما.. ولنتذكر خيار هاتين المدرستين في الأداء التمثيلي المقصود كما أشرنا هنا عندما سنأتي على مقترحات أحمد شرجي التنظيرية...
وفي نموذجنا المختار هنا، بدا نص المؤلف في شعرية العبارة وكثافتها وفي سردية النص في مواضع مختارة منه وفي عبثية المعالجة المغَلَّفة بخلفية واقعية فيما ألغى نصّ المخرج [أحمد شرجي] أو خفّف من أدوات مسرح اللامعقول بخاصة بروز شخصيات الرجل(النادل) ثم الرجل(الحصان) والرجل (قاطع الأشجار) وهي جميعها شخصيات عبثية متنوعة المظهر متحدة الجوهر في شخصية المحقق وهو الأمر الذي التقطه المخرج\الممثل ليدفعه إلى الأمام تحت مشرط المعالجة الواقعية بآلية إحياء الممثل الباحث لسمات الهدف المنشود من ريبتوار العرض..
ومن ثمَّ فقد جاء quot;خيار الواقعية لأحمد المخرج ليُسقَطَ لوناََ موحِّداَ ََ(منسجماََ) على لوحة المؤلّف التي لوّنتها تعددية مقصودة في الاتجاهات بين عبثية ورمزية وواقعية... غير أنه [أحمد] لم يأتِ بواقعية وعظية ساذجة كما يحصل كثيرا هذه الأيام بل عمل على تطعيمها برموز [ولا أقول رمزية بما تحمله من غموض وخصوصية في البنية] وأدوات جمالية مركَّبة بخاصة الأبعاد البصرية وبالتحديد استخدام الشاشة السينمائية ليس بوصفها وثيقة مجردة كما يحصل في المسرح التسجيلي ولكن بوصفها عالماََ آخر يظل يذكرنا ( بوجودها) بانفصال عالم المحقق عن عالم العجوز المعتقَل الذي يقرّبه منّا باتخاذه لغتنا للاتصال فيما تظل وسيلة اتصالنا بالمحقق وعالمه مرسومة رسماََ بصرياََ مزدوجاََ (سينمائيا ومسرحياََ) إننا نحسّ بتأثيره ووقعه الثقيل علينا من خلال أعماله [ووقائع الحدث] بينما نحن نعيش الحالة التي يجسّدها العجوز وكلّ شئ فينا ينطق بذلكquot;...
وطبعا نشير هنا إلى أنَّ حيوية فكرة الممثل الباحث هي التي تصب الدلالات في إناء التلقي عبر العلاقة التركيبية مع البصريات المقصودة في خيارات المخرج باعتماده الممثل مفتاحا رئيسا في معالجاته. ويتعمد الأمر ويتأكد بكون هذا الممثل هو المخرج نفسه أي الفنان أحمد شرجي.[[للمزيد تُنظر دراسة: قراءة في مسرحية الجرافات لا تعرف الحزن للدكتور تيسير الآلوسي: http://www.somerian-slates.com/2l.htm]] وكذلك يُنظر بالخصوص دراستنا الموسومة: [[في الأدب والفن: اختزالات في مدارسهما وفلسفاتهما قراءة في مسرحية الجرافات لا تعرف الحزن http://www.somerian-slates.com/D16.htm]]
إنني أود هنا توكيد طريقة التقديم وآليات فن الممثل لدى أحمد شرجي حيث يمتاح من أبرز مدرستين فلسفتـَهُ هذه محاولا تقديم رؤية مجدِّدة في هذا المضمار، هي مما يبدو من التجربة التي ما زالت في طور الولادة، إشارةَ َ إلى طريقة ثالثة تستفيد من كل من ستانسلافسكي وغروتوفسكي أو بصيغة أخرى من الفيزيائي الخارجي والنفسي الباطني الداخلي... ومثلما جمعت الدراما بوصفها نصا أدبيا من أجل المسرح بين موضوعية الملحمة وغنائية القصيدة مولِّدة نوعا ثالثا كما يقول منظرو المسرح الكبار؛ فإنَّني هنا أؤكد توجه أحمد شرجي في أدائه لتجربة بل طريقة جديدة تمتاح من سالفاتها المعروفة عالميا في محاولة لاستيلاد الجديد.. وكلما ينتظر هذه المحاولة يكمن في أمرين:
1. المزيد من التقصي والبحث الأكاديمي من صاحب البادرة ومن المتخصصين وعلى مستويي التنظير والتطبيق...
2. رعاية جدية مسؤولة ومساندة ملموسة ترقى لإعلان ما تمَّ التوصل إليه فعليا...
وفيما يخص النقطة الأولى يدفع أحمد شرجي رؤيته للنشر [المتواضع] في مواقع عامة عبر شبكة الصحف والدوريات الإنترنيتية. ولكنني أجد أن ذلك مقدمة في البحث عن وسائل نشرِ ما يمثل تجربة مسرحية منجزة وتمَّ أداؤها على الركح في تجاريب عديدة... والمتبقي هو بيد الاحتفاليات المسرحية والندوات التي ستناقش الرؤية المقترح...
وببساطة يختزل أحمد شرجي رؤيته في مسمى (الممثل الباحث) محاولا التنصيص على أنّه لم يعد يفي الممثل أن يلجأ إلى مدرسة يقدم فيها الممثلُ الشخصية َ خارجيا أو باستبطان داخلي، بطريقة ستانسلافسكي أم بطريقة غروتوفسكي؛ ولكل منهما خصوصيته في التعامل مع الممثل بل اُعتُمِدت تعاليم ستانسلافسكي وكتابه في إعداد الممثل حتى يومنا.. فيما أحمد شرجي لا ينوي بالحق أن يقول: إنَّني ألغي طرائق أعلام أو أساطين فن التمثيل وإنَّما التعامل الإبداعي كما ينبغي لمثل هذا النشاط الإنساني وخطابه أن يكون...
إنَّ فكرة الممثل الباحث مبثوثة بين أعمال أحمد شرجي الإبداعية بوصفه ممثلا مخرجا وبين عدد من تلك القراءات النقدية التنظيرية التي كتبها أحمد والتي تنتظر الدعم و التطوير حتى تستقر على رؤية نضجت واستوت لدرجة يمكننا معها أن نعدَّها طريقة تجديدية في مجال فن الممثل. وأذكر هنا عنوانات بعض الأعمال النقدية التي تشتمل على تلك الرؤية المقترحة لأحمد شرجي وهي:
1. الممثل بين مدرستين قراءة في أداء الممثل المسرحي الروماني والهولندي.
2. الممثل الباحث والضوء شراكة درامية على الخشبة.
3. وسيط الطقوس المسرحية.
4. تجريب أم قراءة مغايرة؟؟
في القراءة الموسومةquot;الممثل بين مدرستينquot;، يضع أحمد إصبعه على الفرق بين أداءين أو منهجين مثلما يصف حالتين متباينتين في التمثيل في نموذجي رومانيا وهولندا فيقول: quot; الممثل الروماني والممثل الهولندي هما عينة قراءتنا هذه، هدفنا هو التمييز بين أداء الممثل في المدرسة الشرقية المتمثلة برومانيا والغربية المتمثلة بهولندا...quot; ويتابع قائلا: quot; وجدنا العرض المسرحي الروماني في بحث دائم في الفنون المسرحية كافة وقد امتد ذلك إلى الإضاءة والديكور وكأنهم يعيدون بذلك ما فعله مايرخولد حين استخدم لأول مرة البقع الضوئية العازلة للممثل الواحد في العرض المسرحي وهذه الطريقة لم تكن معروفة وقتها، والأهم من كل هذا هو شغلهم الدائم على الممثل بوصفه أهمَّ عنصر في عناصر اللعبة المسرحية. الممثل في العرض الروماني (رومانيا) ممثل خالق، باحث، يبحث عن شكل آخر يوميا وكأنه يدخل في لعبة مع المتفرج هل ستتعرف علًيَّ هذه الليلة؟ وهذه اللعبة هي التي جعلته في بحث دائم، ولا تهدأ سريرته عند شكل ثابت في ليالي العرض [...] هذا البحث الدائم في جوانيات الشخصية، أي أنه يعمل بالعقل الباطن للشخصية لا يمثل ما يمليه عليه المؤلف أولا ومن ثم المخرج؛ هذا الجهد العلمي على الشخصية هو الذي يميز الممثل في العرض المسرحي الأوروبي الشرقي إذا جاز لنا أن نسميه هكذا.quot;
وبشأن النموذج الهولندي يقول: quot; من المؤكد لم تخلُ مشاهداتنا لعروض المسرح الهولندي [وبالتاكيد رأينا هذا في مجموعة من عروض] من المتعة والاستفادة وهذا أيضا لا يصادر جهد الممثل الهولندي ولا إبداعه، هناك ممثلون جيدون ورائعون لكننا نتحدث عن طريقة بحث الممثل على الدور أو الشخصية التي يمثلها وما مدى الجهد العلمي الذي يبذله على الشخصية. ومن خلال البحث نرى أن الجهد البحثي في العرض الهولندي كان بحثا شكليا أي في الشكل المسرحي فقط نعني أن البحث لم يدخل في جوانيات النص بالنسبة للممثل [...]. الممثل الهولندي لم يكن ذلك الممثل كما الذي وصفه جيري فلتروسكي، ولم يكن ممثلا باحثا حاله حال نظيره الروماني بل كان ممثلا تقليديا كلائشيا، تلميذا قديما للدروس الأولى لفن التمثيل للمعلم الأول ستانسلافسكي quot;..
ونحن في هذه الاقتباسات نريد أن نسلط الضوء على ما يدور في ذهن الممثل الناقد أحمد شرجي وهو يلتقط هنا ما يتجه بنا إلى أصول تفكيره بشأن تفتيشه عن الممثل الباحث في المسرح بتجاريبه المتنوعة المختلفة... وإذا كنّا نلمس أنَّ السيد أحمد لا يخفي إعجابه [من منطلقات فنية جمالية بحتة بالتأكيد] بالمدرسة الشرقية في أوروبا الاشتراكية (السابقة) فإنَّنا بالتأكيد نقف عند ما يهمنا مباشرة في اكتشاف السيد أحمد لفكرة الممثل الباحث...
فأحمد ناقدا منظِّرا يحاسب الممثل الهولندي كونه: quot; ليس ممثلا خلاقا أو باحثا عن شكل تمثيلي خاص به...quot; ويمتلك أحمد الجرأة ليضع اختلافه مع رؤية بيتر بروك بقوله: quot; وهنا قد نختلف مع بيتر بروك في مقولته (الممثل محاكاة لشخص قد تقابله بصورة عادية خارج المسرح) قد نتفق مع بيتر بروك لمقابلتنا لذلك الشخص الذي نراه يبهرنا في طريقة كلامه وطريقة مشيه أيضا، هذا الشخص هو خالق لأسلوبه الخاص به قد لا يشبه أحدا أو قد يشبه شخصا آخر.. وهنا يكمن سحر الممثل الخالق الذي التقط لنا شخصية هذا الشخص، وعمل عليها بحثه عندما افترض لها تاريخا وكذلك خلق لها مجموعة مشاكل اجتماعية ونفسية وأيضا أوجد حلولا لهذه المشاكلquot; وهذه الكيفية مما يلخص لنا بعض ما في رؤية أحمد شرجي هي ما يدفعنا لتلمّس البذرة الأولية التي تعتمل في ذهنه [أحمد] توكيدا لالتزامه فكرة الممثل الباحث عبر محاولاته اقتباس ما يدعّم رؤيته من تراث النقد المسرحي المعاصر تحديدا سواء بالاتفاق أم بالمخالفة...
وفي قراءة أحمد شرجي الموسومة quot;الممثل الباحث والضوء شراكة درامية على الخشبةquot; يعمِّد أحمد التزامه هذا منذ اختيار العنوان ومرورا بتفاصيل رؤيته النقدية؛ صحيح أنّه يناقش جزئية ترتبط بالممثل الباحث ولا تعالج الفكرة مباشرة إلا أنّه من الصحيح أيضا أن نتلمس نحن مفاتيح تطور الفكرة عند أحمد ناقدا بالاستناد إلى مرجعياته الأكاديمية التي امتاح [أخذ مادة ليبني] منها منهج تفكيره المسرحي بل طريقته التي يريدها للممثل الباحث...
وهنا يقول أحمد: quot; الممثل هو الذي يعطي روحاَ َ حية للضوء ويحوله من عنصر براق إلى سحر لوني، الضوء يساعده ليكشف دواخل الشخصية، ويقوده إلى مناطق أخرى، من خلال تفاعله (الممثل) مع الكتلة الضوئية، وكذلك مع الألوان التي يتطلبها المشهد أو الحالة، وفق المعنى الفلسفي للون، وهنا يتحول الضوء من وسيلةِ كشفِ ِ للأشياء إلى (ممثل صامت) يساعد الممثل لتفجير موهبته، وكذلك لفتح مغاليق الحالة المجسَّدة.quot; وطبعا تركيز أحمد على شخصنة الضوء أو منحه سمة الشخصية الدرامية هو عامل تفعيل للممثل الباحث في تعاطيه مع هذه الشخصية المنتجة مسرحيا برؤية جديدة...
وأحمد يقول توكيدا للدور المخصوص لــ[ممثلـ] ـه هذا: quot; يجب على الممثل أن يتعامل مع الضوء بوصفه ممثلا، وأن يحرص على التعامل معه بحساسية عالية، وهنا تكون مهمة المخرج أيضا؛ إذن يجب عليه إعطاء مساحة وحرية كبيرة لمصمم السينوغرافيا بالعمل مع الممثلين..[...] نلاحظ الكثير من الممثلين يتعاملون مع الضوء، بوصفهِ مجرد كاشف للجسد أو المكان، وهذا خطأ كبير، تقع مسؤوليته على الممثل،...quot; ويتابع قائلا: quot;والممثل إذا لم يفعل أو يشعر بالضوء سيكون حتما في حدود الظلام ولا يراه المتفرج، وما نريد الوصول إليه ndash; هو الإحساس بالضوء/ اللون، وكيف يحسّ به الممثل على الخشبة. فإذا لم يكن التعامل معه كـ(ممثل شريك) بالعملية التمثيلية، لا يمكن أن يحسَّ ويشعر بوجوده، لأن إحساسه العالي هو الذي يقوده باتجاهه وليس قدماه، الحوافز الداخلية له كممثل هي التي تدفعه للتعامل معه كشريك على الخشبةquot; ويتابع مفصِّلاَ َ في سعيه لتوضيح إشكالية تشخيص الضوء ومنحه سمات حيوية الشخصية الدرامية ممتلكة الفعل بالقول: إنَّ quot;الضوء/اللون وظيفته ليست مجرد كاشف وإنما محفز وطالما امتلك أدوات التحفيز، إذن هو فعل مُحرك، ولكنه لا يمتلك أدوات رد الفعل، وإنْ كانت النظرية الفيزيائية تؤكد أنَّ لكل فعل رد فعل، لكن الذي يهمنا هنا، هو الفعل طالما هناك وجود رد فعل أصيل (الممثل) على الخشبة شريكا للضوء/اللون بالعملية التمثيلية، وهنا يذهب أحمد [ناقدا] مع ما يذكره أريك بنتللي بما يدعم معالجته ورؤيته: فيقتبس قول بنتللي الذي ينص على أنَّ: (الضوء والموسيقا وحدهما يستطيعان التعبير عن *الطبيعة الباطنية لكل المظاهر* حتى إذا كانت أهميتهما النسبية، ليست دائما الأهمية نفسها، فإن تأثيرهما متماثل، كلاهما يقتضي موضوعا يستطيع أن يضفي عليهما شكلاً إبداعيا... الشاعر يقدم الموضوع للموسيقا، بينما يقدم الممثل الإعداد المسرحي للضوء\ أريك بنتلي-نظرية المسرح الحديث،ترجمة عبدالمسيح ثروت - دائرة الشؤون الثقافية العامة- وزارة الثاقفة والاعلام الطبعة الثانية 1986-بغداد. ص27.).quot;
أما في قراءة أحمد الموسومة quot;وسيط الطقوس المسرحيةquot; فيُبرز جوهر رؤيته وآلية اشتغاله ومفرداتها في اعتماد الممثل وسيلة حية أساسا للعمل المسرحي عندما يقول: quot; مما لاشك فيه أن الممثل هو العنصر الأكثر أهمية من كل العناصر الآخرى التي تُشكل مكونات العرض المسرحي على الخشبة؛ إذ هو المترجم للغة المسرح والمجسد للأفكار والعلامات؛ بل قد يكون المحفز الأول للمدارك الجمالية بالعرض المسرحي والذي لا تقوم للعرض قائمة إلا من خلاله.quot;
وتمييزا لممثله الباحث الذي يفتش عن توسيمه ووصفه لنا يقول أحمد بالاستناد إلى التراكم المعرفي الجمالي لديه: quot; إن كل إنسان هو ممثل في الحياة بشكل عام، لكن لو طلبنا منه أن يمثل حالة معينة يؤديها يوميا بشكل عفوي ويقدمها لنا على الخشبة، فسنراه يستخدم أفعالا أخرى لا تنتمي إلى نفس الأفعال التي يستخدمها في يومياته، لأنه على الخشبة سيفقد العفوية ويبالغ بأفعاله ومن ثمَّ سيتحول إلى غيره فيخسر المصداقية التي كان يتمتع بها وهو في الشارع. لكن الممثل الباحث يعمل العكس تماما؛ يبحث عن أشياء حياتية يؤديها شخص/ شخوص ما بالشارع لينقلها بدوره للشخصية التي يتقمصها ويذوب بها على الخشبة، كي يكون صادقا بأدائه ومقنعا لنا كمتلقين. إنه يدخل في مرحلة بحث مستمر عن حالات سلوكية مختلفة من خلال مراقبته للأشخاص وتحركاتهم وردود أفعالهم؛ يأخذ الذي يستفز مخيلته من كل مشاهداته، ويضعه في مختبره العملي، البروفات الجماعية مع فريق العمل أو البروفة الشخصية. ويظل يجرب كل يوم حالة اقتنصها من الشارع حتى يصل إلى الشكل الخارجي للشخصية (الشكل الفيزيائي)، وبعد ذلك يأتي إلى المرحلة المهمة وهي مرحلة البحث عن التقلبات النفسية للشخصية: سلوكها، طباعها، قوتها و ضعفها...إلخ، وهذا يستنبطه من خلال قراءته العميقة للنص والغوص في ( جوانيات) الشخصية.quot; وهذه عبارة مما لا يحتاج لتوضيح في معطيات ما يرمي إليه (أحمد) في تنظيره وتثبيته لسمات الممثل الباحث...
أإَّ quot;حضور الممثل، هو القوة الحقيقية التي تستمدها الشخصية من الممثل على الخشبة وليس العكس.quot; كما يختار أحمد تعبيرا عن توصيفه؛ ومتابعة لتبيان ما يريده من هذه الفكرة فإنَّ أحمد يشير إلى كثرة الممثلين الذين أدوا شخصيات مسرحية مهمة على الخشبة لكنهم [كما يشير لنا في قوله] كانوا هزيلين بأدائهم quot;لأنهم اتكأوا على الأرث التاريخي والجماهيري لتلك الشخصيات، فكانوا ممثلين بلا حضور، كلائشيون يؤدون وظائف مسرحية، لأنهم لا يمتلكون سحر حضور الممثل.quot; بينما نحن، يقول أحمد: نريد الممثل الباحث quot;الممثل الذي تقلقه أسئلته الشخصية ومحاورها وسلوكها، الممثل الباحث لا يتوقف عند الجملة التي كتبها المؤلف، بل يذهب إلى أبعد من ذلك كثيرا، إلى ما تخفيه الجملة من مغزى ويحول الكلمة إلى منظومة علاماتية كاملة يبثها في العرض المسرحي، بوصفه حاملا للعلامات ومنتجها أيضا، يبحث عن الدوافع الحقيقية لما وراء الكلمة، يفترض تأريخا مزيفا لها، ومن ثمَّ يكون هو أول من يصدق بهذا التاريخ ويتبناه ويدافع عنه، كأنه تاريخه الشخصي، إذا وصل الممثل لهذه النتيجة حتما سيفتح مغاليق الحوار، وينثرها إبداعا ساحرا على الخشبة، أليس هو أخيرا ساحر؟quot;
إنَّ جملة ما اقتبسناه لأحمد شرجي هنا، لا يمكن الادعاء فيه بأنه نسيج وحده وأنّه وليد بنات أفكار شخصية مخصوصة في غرفة كريستال معزولة تحيط بهالة أحمدية [نسبة لأحمد شرجي] وليس هذا الأمر بعيب أو مثلبة فكل الاكتشافات قامت على حلقات متعاقبة متصلا اتصالا سببيا وتراكميا للمعارف والكشوف الإنسانية.. ومن هنا يبقى لأحمد شرجي وهو يمتاح آخذا بعض مصادره ومفرداته من منظّري المسرح ونقاده ومن مبدعيه وتجاريبهم، ما يمتلكه في الوقت ذاته من بعض خصوصية في التجربة عبر نسقها المستقل ومن خلال عملية التجريب الذاتي وفي ضوء عين فاحصة لتجاريب المسرح وقراءة في أداءات الممثل في المسارح الوطنية العراقية والعالمية الشرقية منها والغربية، الأمر الذي يمنح براءة الكشف المخصوص للسيد أحمد في استخدام مصطلح الممثل الباحث وتطويره تدريجا لآليات أداء إبداعي [في طرايقة ملموسة محددة] للممثل على الركح بوصفه القلب النابض الذي يفضي إلى حياة المسرحية بحق....
هل سيستطيع أحمد أن يطوّر كشفه وأن يتلمس وسائل تعميد مصطلحه الفني النقدي وأن يفتح مدرسة يتخرج فيها أتباعها مع تعمّق التعاطي مع توصيفات درامية وافية بعدما أمسك أحمد برأس الخيط (رأس الشليلة كما يقول العراقيون في دارج أمثلتهم) ليتابع مساره في عطاء منتظر؟ ما أعتقده أن ذلك ممكن من جهة توافر روح المثابرة والعطاء الذاتي لدى أحمد شرجي ولكن كم سيصادف في تفاعله مع الآخر في الوسط المسرحي وفي تفاصيل يومياته الحياتية؛ سيحتاج الأمر لبرهة من الزمن قبل أن نحكم على نتائج تجاريبه وتطوراتها ودرجة النضج المؤملة بما يفضي لولادة نهائية لمنهج جديد...
وأجدني هنا بهذه العجالة البحثية أضع شهادة أولى على ولادة حقيقية نضيفها لمعجمنا المسرحي المعاصر.. ولكنْ، لعلي بوقفة تالية أجد أحمدا وقد تأبط تجربته [طريقة] مسرحية للممثل الباحث وبتوصيفات تكاملت وتمت لتصير بدل الفصل مدرسةَ َ يُعتدّ بها بعد أنْ يكونَ مديرُها قد تعمّدَ بأمواه العشق المسرحي ولكن هذه المرة ذاتيا وعبر تجربة شخصية الهوية موضوعية الوجود... فلنمدَّ يد العون ولنحيِّي تلك المحاولات المثابرة.
أستاذ الأدب المسرحي
[email protected]