[وصلتنى رسائل غاضبة كثيرة من إخواننا الأقباط معترضين على المقال السابق والذى كنت أعلق فيه على زيارة الفنان عادل إمام للبابا للحديث حول فيلمه الجديد، المهم أن كثيراً من هذه الرسائل كان متشنجاً وعصبياً ومليئاً بالإهانات الشخصية والسباب، وأهم ماذكرته هذه الرسائل أن مقالتى إستفزت مشاعرهم الدينية خاصة عندما وصفت أشعار البابا شنودة بأنها أشعار عادية!!، والسؤال الذى يفرض نفسه هو ماهى علاقة أشعار البابا شنودة بمشاعرهم الدينية؟، وبرغم إحترامى وتقديرى للبابا شنودة إلا أن هذا الإحترام والتقدير لايمتدان بالضرورة إلى شعره الذى مازلت مصراً على أنه شعر عادى جداً فى ميزان الفن، وهذا لايعيب البابا شنودة فى شئ، كما لايعيب الشيخ الشعراوى أو الشيخ القرضاوى أو الشيخ الغزالى أن شعرهم عادى جداً أيضاً، ولكن العيب أن نصر على أن هذا الشعر هو شعر عظيم، فالإحترام الدينى لايعنى التقديس أو الألوهية، فأنا لم أقل أن الكلام الإلهى عادى ولكنى خلعت هذا الوصف على كلام بشر، حتى ولو كان رجل دين بل أعظم رجل دين فهو فى النهاية بشر، من الممكن أن يكتب شعراً عادياً بل رديئاً فى بعض الأحيان، وليست فى هذا أى إهانة أو إنتقاص من قيمته كرجل دين.
[كان لابد من هذه المقدمة قبل الخوض فى الموضوع الأهم وهو دلالات هذا الغضب، والحساسية الشديدة التى باتت تحكم علاقات الطرفين مسلمين ومسيحيين، وخلط الذات بالموضوع وعدم تحمل أى نقد، وإعتبار هذا النقد نقضاً لوجودهم وكيانهم نفسه، وتفسير كل سلوك وتصرف بتفسيرات تآمرية، فأنت عندما تنتقد قبطياً مثلاً فى مسلسل فهذه مؤامرة على المسيحية نفسها، وعندما تنتقد رجل دين مسلم فى عمل فنى فتلك مؤامرة صليبية صهيونية فتاكة ضد الإسلام، والمدهش أن الجميع لم يفطن بعد إلى أن المسيحية تختلف عن المسيحيين، وأن الإسلام أكبر من المسلمين.
[أهم الدلالات التى خرجت بها من قراءة ردود الفعل القبطية الغاضبة، هى أنه إذا كان الملا عمر موجوداً فى المعسكر الإسلامى فإن الملا جرجس موجود فى المعسكر القبطى!، وأن المسألة أصبحت مسألة أهلى وزمالك، وإن من هو ليس معى فهو بالضرورة ضدى، وأنا وأخويا على إبن عمى وأنا وإبن عمى على الغريب!!، كلها مفاهيم قبلية تسللت إلى النسيج المصرى، وإنزرعت فى نخاعه، وأصبح القبطى يفرح بك إذا إنتقدت فتوى إسلامية ثم يلعن سنسفيلك وأبو خاشك حين تنتقد رأى قسيس أو وجهة نظر الأكليروس، وصار المسلم يعلق لك النياشين والأوسمة طالما أنت ضد تدخل الكنيسة فى شئون الحياة اليومية، ولكن عندما تعترض على تدخل الأزهر فى القوانين ومصادرته للكتب ورقابته على الأعمال الفنية، فأنت شيطان رجيم تستحق الدهس بالأحذية!.
[هذا ماحدث معى شخصياً عندما إلتقطت بعض المواقع القبطية على الإنترنت آرائى التى أدعو فيها للدولة المدنية بعيداً عن سطوة الشيوخ، وأنتقد فيها هستيريا الفتاوى الفضائية التى صارت تنطلق بلاضابط ولارابط لتسمم حياتنا، وعندما هاجمت الفكر الخرافى الذى جعل المسلمين يتجهون إلى الشجرة المبروكة يلتمسون منها البركة لأن لفظ الجلالة محفور على جذعها، إحتفت بى هذه المواقع وضمتنى إلى معسكرها برغم أننى لم أتقدم بإستمارة عضوية، ولكننى عندما كتبت عن خرافة علاج حفيد المذيعة فريدة الزمر بالإنجيل، ودعوت إلى مراجعة وتدقيق فوضى ظهور الشخصيات المسيحية المقدسة على أبراج الكنائس وردها إلى نظريات علمية معروفة، هاجت الأوساط القبطية، وأخرجتنى هذه المواقع من جنتها، وألغت إستمارة عضويتى التى لم أتقدم بها، كل هذا الهجوم تم برغم أننى كنت ومازلت من أشد المدافعين عن حقوق الأقباط فى دولة مدنية، ولخصت هذا فى شعار أطلقته وقلت فيه quot; المسيحى المصرى أهم من المسلم الأفغانى quot;، وبسبب هذا الشعار تعرضت لهجوم شديد وتهديدات وصلت إلى حد التكفير وطلب تطبيق حد الردة.
[حدث هذا مرة أخرى عندما إنتقدت تجارة الإعجاز العلمى فى القرآن، وقلت إن هذا فيه خطر شديد على العلم وعلى الدين أيضاً، لأنه يربط النسبى بالمطلق، وكنت أنطلق فى هذا النقد من منطلق خوفى على الدين وعلى العلم أيضاً، وليس من منطلق أننى أهاجم الدين نفسه، وتكرر نفس الأمر وتم إستغلال هذه المقالات وصبها فى خانة إنتقاد الدين نفسه، الشئ الذى لم يدر بخلدى قط، والمدهش أنهم أضافوا أن الإنجيل به إعجاز علمى، أى أنهم وقعوا فى نفس المطب، وعندما كتبت قائلاً أن الإعجاز العلمى وتجارته خطأ فى كل الكتب السماوية وليس فى القرآن فقط، وأن أهم ماعطل العلم وتقدمه فى أوروبا فى العصور الوسطى كانت هذه التفسيرات الكنسية، وتقديس النصوص الحرفية وعدم تأويلها، فحاكمت الكنيسة جاليليو لأن النص يقول أن المسكونة(الأرض) لاتتزعزع، وتأخر علم التخدير لأن النص يقول بالوجع تلدين أولادك....إلى آخر هذه التفسيرات النصية التى لم تختلف عن تفسيرات بعض الشيوخ الوهابيين عندنا حول إنكار كروية ودوران الأرض من خلال تفسير بعض الآيات والأحاديث!!.
[تحول الأمر إلى مباراة ثأرية بين الفريقين، نكتب ونهاجم تجارة الأعشاب والوهم من بعض الدعاة الذين يستغلون الإسلام، فيهاجمنا البعض قائلاً إنه يعمل لصالح شركات الأدوية الصليبية الصهيونية ويقبض منها، نتحدث عن عقل أكثر فهماً وتسامحاً ومرونة فى مسألة الأحوال الشخصية للأقباط فيتهموننا بأننا نريد تدمير هوية الأقباط!!، وأصابتنى الحيرة، أفتح الشباك أم أغلق الشباك، هل لابد لمن يكتب أن يكون محسوباً على أحد المعسكرين؟، هل لابد من صبه فى قالب أحدهما حتى يرضى عنه؟، حيرة مابعدها حيرة.
[لم يفقه هؤلاء بعد أننا ندافع عن الدولة المدنية التى تضم المسلمين والأقباط، ندافع عن الوطن الذى وصفه اللورد كرومر بأنه لايعرف فيه القبطى من المسلم إلا حين يدخل هذا الكنيسة ويدخل ذاك المسجد، لايفقه هؤلاء أنه من الممكن أن تكون متديناً وعلمانياً فى نفس الوقت وبدون أى تناقض، وأن العلمانية ليست ضد الدين وإدماجه فى المجتمع ولكنها ضد تحكم رجال الدين فى المجتمع، ليست ضد أن يرشدنى رجل الدين دينياً ولكنها ضد أن يتدخل فى علاجى ويؤخر قانون زرع الأعضاء أو يفتى فى قانون المالك والمستأجر، الدولة المدنية هى هدفى وهدف كل من يحب لهذا الوطن مكاناً فى ركب الحضارة، والتفكير العلمى هو حلمى وحلم كل من يريد الحياة لهذا الوطن، وحتى يأتى هذا الوقت سأظل مستقلاً، ولن أؤجر عقلى مفروشاً لأى عمامة سواء كانت عمامة شيخ أو قسيس، أحترم رجل الدين ولا أقدسه، ولا أرفعه إلى مرتبة الألوهية، الحقيقة عندى ليست بكثرة معتنقيها، ولا بكبر سن قائليها، ولا بقدم زمان مطلقيها، وإنما بمنطقها وعقلانيتها، هذه هى الحقيقة التى لن يغتالها الملا عمر أو الملا جرجس مهما طال الزمن.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية