بغض النظر عمّا حققته قمة شرم الشيخ، التي ضمّت الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله الثاني ورئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عباس ورئيس الوزراء الأسرائيلي أيهود أولمرت، يظل الشعب الفلسطيني الضحية. أنه ضحية الممارسات الفلسطينية أوّلاً وعدم الرغبة في الأستفادة من تجارب الماضي ومآسيه في آن. مسكين الشعب الفلسطيني. في أستطاعة العرب مساعدته، لكنهم لا يستطيعون شيئاً أذا لم يساعد نفسه أوّلاً بوجود حكومة أسرائيلية أستفاقت متأخرة على أن همّها يجب ألاّ ينصب على محاربة السلطة الوطنية الفلسطينية وتدمير مؤسساتها بما يخدم quot;حماسquot;...
يختصر المأساة الفلسطينية الجديدة التي نجمت عن الحلف غير المعلن بين أسرائيل و quot;حماسquot; أنه لو فتحت أبواب قطاع غزّة الآن لخرج منها نصف سكانها ألى حيث في أستطاعتهم أن يرحلوا، أي ألى مصر والضفة الغربية... وحتى أسرائيل، بعدما تبيّن أن لا وجود لأي أفاق سياسية أمام quot;حماسquot; نتيجة أقدامها على خطوة السيطرة عسكرياً على القطاع وطرد quot;فتحquot; منه. ما يدلّ على أن لا وجود لمثل هذا الافق السياسي كلام السيّد احمد يوسف المستشار السياسي للسيّد أسماعيل هنية الذي لا تزال quot;حماسquot; تعتبره رئيساً للوزراء الفلسطيني، على الرغم من تشكيل رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عبّاس حكومة طوارئ برئاسة الدكتور سلام فيّاض. يدعو أحمد يوسف في مقال نشرته أخيراً صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة، ألى الأنفتاح على quot;حماسquot; في مقابل تثبيت ما يسمّيه quot;هدنة طويلةquot;. لا يدري المستشار السياسي لهنية أن ليس هناك أي أهتمام دولي بمثل هذه الهدنة التي تستطيع أسرائيل فرضها بالقوة متى شاءت ذلك ومتى أعتبرت أنها تصبّ في مصلحتها.
ألى الآن، تبدو أسرائيل التي عينها على الضفة الغربية وليس على غزة، مرتاحة ألى كلّ ما تقوم به quot;حماسquot;. كلّ التطورات التي شهدتها وتشهدها غزّة تصبّ في مصلحتها بما في ذلك أنتشار فوضى السلاح في القطاع وأستمرار أطلاق الصواريخ منه. لعلّ الوضع الذي يريح دولة الأحتلال أكثر من غيره هو الوضع السائد في غزّة حالياً. تستطيع أسرائيل القول للعالم أنها أنسحبت من كلّ القطاع في صيف العام 2005، لكن شيئاً لم يتغير فيه نحو الأفضل. على العكس من ذلك، لم يتوقف الفلسطينيون عن اطلاق الصواريخ وهم خطفوا جندياً قبل سنة وحاولوا خطف غيره لاحقاً. والأهم من ذلك، أن الفلسطينيين لم يجدوا صيغة للتفاهم في ما بينهم، صيغة تحفظ الأمن في القطاع. وما لبثوا أن دخلوا في حرب أهلية أنتهت بانتصار quot;حماسquot; وفرار عناصر الأجهزة الأمنية ومقاتلي quot;فتحquot; في أتجاه الأراضي الأسرائيلية كي لا يسحلهم مقاتلو quot;حماسquot; أو يفتكوا بهم. يا لها من مفارقة حين يضطر فلسطيني ألى الأحتماء بالأسرائيلي خوفاً من فلسطيني آخر. ولكن ما العمل عندما تتتغيّر موازين القوى في مكان ضيق مثل غزة تحول ألى غابة سلاح... بفضل التسهيلات التي حصلت عليها quot;حماسquot; بقدرة قادر فأمتلكت السلاح والمال بما مكّنها في النهاية من السيطرة على القطاع وطرد السلطة الوطنية ومعها quot;فتحquot; منه؟
لا تصلح الهدنة الطويلة شعاراً لمرحلة ما بعد أنتصار quot;حماسquot; في غزة وهو أنتصار أعاد القضية الفلسطينية ألى ما دون نقطة البداية، أي ألى مرحلة لم يكن فيها أي أعتراف عالمي سوى بلاجئين وليس بوجود شعب فلسطيني يمتلك حقوقاً مشروعة quot;غير قابلة للتصرفquot;. حتى لو كان شعار quot;الهدنة الطويلةquot; خضع في الماضي لتفسير من أحمد يوسف في مقال مشابه تحدث عن المفهوم الأسلامي للهدنة بصفة كونها مرحلة تسبق السلام، فأن البضاعة التي تسعى quot;حماسquot; ألى الترويج لها غير قابلة للتسويق. الخيار الوحيد لquot;حماسquot; هو الأعتراف بأن أنتصارها العسكري في غزّة كان هزيمة شنيعة لها ولكلّ ما تمثله. لم تفهم quot;حماسquot; أن أنتصارها في الأنتخابات الفلسطينية قبل ثمانية عشر شهراً عائد ألى حال قرف لدى المواطن الفلسطيني من quot;فتحquot; ومن ممارسات عناصر quot;فتحquot; وقيادييها في شكل عام لا أكثر ولا أقل.
يفترض في quot;حماسquot; أن تستوعب أن المخرج الوحيد من أزمتها يتمثل في الأعتراف أيضاً بانّ المشروع السياسي الوحيد القابل للحياة هو ذلك الذي تطرحه السلطة الوطنية الفلسطينية عبر رئيسها quot;أبو مازنquot; الذي أتخذ أخيراً موقفاً جريئاً برفض الحوار معها بعدما لجأت ألى حسم الخلاف السياسي عن طريق السلاح. عليها أن تستوعب في الوقت ذاته أنّ ليس كافياً مهاجمة العقيد محمد دحلان كي تحصل على صكّ براءة من الجرائم التي أرتكبتها. ربما كان خطأ دحلان أنه مكث في القاهرة بعد الجراحة التي خضع لها في ركبتيه ولم يعتقد لحظة، خصوصاً بعد أتفاق مكّة، أن quot;حماسquot; يمكن ان تلجأ ألى السلاح مجدداً لتنفيذ أنقلاب من النوع الذي نفّذته أرضاء للمحور الأيراني ndash; السوري. لم يكن أحد في quot;فتحquot; وحتى خارج quot;فتحquot; يعتقد أن quot;حماسquot; لا تشبه سوى عصابة quot;فتح ndash; الأسلامquot; التي حاولت تنفيذ أنقلاب في شمال لبنان أنطلاقاً من مخيّم نهر البارد ومن أوكار لها في مدينة طرابلس.
ما حصل في غزّة يريح السلطة الوطنية الفلسطينية ويعفيها من عبء القطاع ويريح quot;فتحquot;، او على الأصح ما بقي منها، في حال كانت هناك نية لأعادة الحياة ألى الحركة الفلسطينية الأم. من لن يكون مرتاحاً هو مصر، نظراً ألى أن الأكيد أن السلطة فيها ستعتبر الأنقلاب الذي شهدته غزة موجهاً ضدها في الأساس، هي التي أبقت على وفد أمني في القطاع وسعت ألى تهدئة الأمور فيه مع التأكيد المستمر أنها معنية مباشرة بالوضع الغزاوي. لم تكن مصر راضية عن غزوة غزة وكانت لديها قبل ذلك تحفظاتها عن أتفاق مكة الذي كان بمثابة تجاهل لدورها في منطقة تعتبر نفسها معنية بها مباشرة سياسياً وأمنياً. في النهاية، أن quot;حماسquot;، على الرغم من تحولها الى أداة للمحور الأيراني ndash;السوري، تظل جزءاً لا يتجزأ من حركة الأخوان المسلمين التي هي في صراع مباشر مع الحكم في مصر. هل وضعت quot;حماسquot; في حساباتها العامل المصري والشعور السائد في بعض الأوساط المصرية بأن النفوذ الأيراني توسّع ألى غزة وبات على الحدود المصرية القائمة مع القطاع؟
بعد سنة ونصف سنة على فوز quot;حماسquot; في أنتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وبعد تشكيلها حكومة خاصة بها رفض العالم التعاطي معها، وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي ما لبثت أن أنهارت نتيجة أحداث غزة، يؤمل بأن تفكر الحركة بالشعب الفلسطيني. يؤمل بأن تفكر في أن قطاع غزة سيظل معزولاً عن العالم وأن ليس أمامها سوى الأعتراف بهزيمتها. لم تنهزم quot;حماسquot; لأنها تحولت مجرد أداة في لعبة ذات طابع أقليمي يستخدم الشعب الفلسطيني وقوداً فيها فحسب، وأنما هُزمت أيضاً لأنّ ليس لديها ما تقدمه للشعب الفلسطيني سوى الشعارات. الشعارات لا تطعم شعباً ولا تفك العزلة عن أهل غزة. الشعارات التي ترفعها quot;حماسquot; تمثل أكبر خدمة تقدم للأحتلال الأسرائيلي. لا تشبه شعاراتها سوى شعار quot;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةquot; الذي نقل العرب من هزيمة ألى أخرى والفلسطينيين من كارثة ألى أخرى أكبر وأشدّ هولاً. لا تشبه شعاراتها سوى تلك التي يطلقها الرئيس الأيراني محمود أحمدي نجاد الذي يدعو ألى التخلص من أسرائيل، فأذا بالدولة اليهودية أول من يتلقف ما يرد في خطبه ويتولى توزيعها على العالم!
لماذا لا تعترف quot;حماسquot; بهزيمتها؟ منذ متى كان الأنتصار على الفلسطيني الآخر أنتصارا؟ متى أعترفت quot;حماسquot; بهزيمتها يصبح الحوار ممكناً... مع quot;فتحquot; وغير quot;فتحquot; ومع السلطة الوطنية ممثلة برئيسها. متى فعلت ذلك، يصبح في الأمكان البحث في حكومة جديدة، ذلك أن ما هو أهم من الحكومة العودة عن الخطأ عبر الأقرار بأن لا افق سياسياً لأنقلاب غزة. كلّ ما في الأمر أن عذابات الشعب الفلسطيني في القطاع ستزداد وسيصبح الخروج من غزّة هدفاً في حد ذاته حتى لو كان ذلك في أتجاه العدو الأسرائيلي...
ثمة من سيرد على هذا الكلام بأن quot;حماسquot; أنتصرت، لا لشيء سوى لأنّ هدفها السلطة. السلطة من أجل السلطة. أما فلسطين وطموحات شعب فلسطين، فأنها ليست سوى عذر يستخدم من أجل الأستيلاء على السلطة. فلسطين وطموحات شعب فلسطين آخر هموم quot;حماسquot; ما دامت السلطة في غزة في يدها ويد الذين يسيرونها من خارج! هل أقامة أمارة أسلامية في منطقة بائسة معزولة عن محيطها منتهى طموحات الشعب الفلسطيني؟
لم تكن أسرائيل تحلم بمثل هذا الوضع المثالي بالنسبة أليها. أنّه وضع مثالي في المدى القصير فقط، وهو وضع لن تعيد النظر به ألآّ عندما تبدأ الصواريخ الأيرانية المصدر تتساقط على التجمعات السكانية فيها. ستستفيق عندئذ على أن أستثمارها في quot;حماسquot; لم يكن في محله وأن عليها الأستماع جيداً ألى كلّ كلمة صدرت عن الملك عبدالله الثاني الذي لم يتوقف عن تكرار أن التسوية في مصلحة الجميع وأن ألرهان الأسرائيلي على أستمرار الأحتلال ليس في مصلحة أحد، لا الأسرائيليين ولا الفلسطينيين ولا العرب ولا الأستقرار في المنطقة.