في مطلع خمسينات القرن الماضي أنهى الشيخ خليل عبد الكريم دراسته في الفقه والشريعة الإسلامية في الأزهر الشريف، واتجه بعد ذلك لدراسة القانون. وبعد تخرجه عمل في مكتب اثنين من كبار قيادات الإخوان المسلمين. وقد اهتم أثناء عمله في المحاماة بدراسة التاريخ العربي والإسلامي، مما أدى به إلى التحول من صفوف الإخوان المسلمين إلى صفوف حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي. ولد عام 1929 وتوفي في الشهر الرابع من عام 2002 عن عمر ناهز الثالثة والسبعين عاما.
إن كتاب الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية* المروض في هذا المقال هو من المؤلفات الأولى للشيخ خليل عبد الكريم التي بلغت نحو ثلاثة عشر كتابا. وحبذا لو أن علماء الدين والمتخصصين ناقشوا موضوعات المؤلف، وفندوها، بشكل علمي موضوعي، بعيدا عن الاتهام والتخوين، والترهيب والتكفير. وهو يذكّر هؤلاء أن من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، أما هو فيأمل كما قال أن يحظى بالأجرين.

الاسترقاق
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عبارة يعجب بها ويرددها وهي (شرّع الإسلام العتق ولم يشرّع الرق). وهذه حقيقة لا يمارى فيها، لكنها حقيقة منقوصة. فالإسلام وإن كان لم يُشرّع الرق، لكنه أباحه وأجازه، ولم يحرمه. وقد كان للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إماء وعبيد. كما اقتنى العبيد والجواري أيضا كل من الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم من الصحابة، وأئمة المسلمين وعامتهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى أُلغي الرق بقوانين وضعية علمانية شرّعتها الأمم المتحدة.
وكان نظام الرق معمولا به قبل الإسلام، نتيجة غارات القبائل على بعضها بعضا، وما ينتج عن تلك الغارات من سبي ونهب وأسر. والذي يمتلك رجلا- عبدا أسره، أو فتاة- جارية سباها في غارة، قد تضطره ظروفه إلى بيع ذلك الرجل- العبد، أو تلك الفتاة- الجارية. وطالما وُجد البيع، وُجد الشراء. وكان العرف القبلي السابق على الإسلام يعطي القبيلة المنتصرة حق استرقاق أفراد القبيلة المنهزمة.
وقد عرف الإسلام رق السبي والأسر، كما عرفت الشريعة الإسلامية رق البيع والشراء، ورق الاستدانة، أو الوفاء بالديون. وقد قضى النبي قبل نزول آيات الربا باسترقاق شخص يُدعى (سُرّق) عجز عن الوفاء بدينه لدائنه- (محمد سعيد العشماوي- الربا والفائدة في الإسلام). وقد ورث الإسلام هذا العرف، أو هذا التقليد ممن سبقوه من العرب، كما ورث غيره من التقاليد والأعراف.

التمييز بين العرب والأعراب
وصف الدكتور طه حسين الحياة في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، بأنها كانت حياة قاسية، وأن النظام القبلي قام على العصبية، ما عدا أهل المدن الذين اتسع عيشهم، واتسم بقدر من الدعة والاستقرار، فهم لا يرحلون كغيرهم طلبا للغيث والكلأ، وإن لم يبرأوا من العصبية. والمدن التي أشار إليها الدكتور طه حسين هي : مكة والطائف ويثرب وبعض الواحات.
إن الطبيعة الصحراوية لشبه الجزيرة العربية، وشظف العيش، من أهم الأسباب التي أدت إلى تفشي البداوة، وبروز الروح الفردية، وتقاتل القبائل فيما بينها. وهكذا انقسم المجتمع العربي السابق على الإسلام، إلى مستقرين في المكان، أُطلق عليهم اسم (الحضر). ومتنقلين التماسا للعشب، أُطلق عليهم اسم (البدو)، يعتمدون في معيشتهم، على ماشيتهم وما تنتجه من لحوم يأكلونها، وألبان يشربونها، وأصواف يلبسونها، ويصنعون مساكنهم منها. وحين يشتد بهم الضيق، يأكلون الضب واليربوع والوبر. وقد كان هؤلاء (البدو) ولا زالوا يحتقرون الزراعة والصناعة والتجارة والملاحة.
لقد أُطلق على سكان المراكز الحضرية المستقرة لقب (العرب). وأُطلق على البدو الرُحَل لقب (الأعاريب أو الأعراب). وكان الأعرابي يفرح إذا قيل له يا (عربي). والعربي يغضب إذا قيل له يا (أعرابي). ويرى ابن قتيبة أن الأعرابي لزيم البادية. أما ابن خلدون فإنه يرى أن البدو أقدم من الحضر، وأن البادية أصل العمران، وأن سكانها أقرب إلى الخير والشجاعة من أهل الحضر. والتاريخ الإسلامي يؤكد صحة هذا الرأي، إذ أن جيوش الفتح كانت في غالبيتها العظمى من الأعراب أهل البادية الذين كانوا المدد العسكري لجيوش الفتوحات.
لقد استقرت في المجتمع العربي السابق على الإسلام، التفرقة بين العرب والأعراب، وانتقل هذا العرف إلى الإسلام، أو لنقل أن الإسلام وافق العرب على هذا العرف، وعلى نظرتهم إلى الأعراب، ورأيهم فيهم. فالقرآن الكريم يقول (الأعراب أشد كفرا ونفاقا- التوبة 97) ويقول أيضا (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم- الحجرات 14). ويقول أيضا (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم... الفتح 11) وفي آية كريمة أخرى (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما- الفتح 16). وقال مجاهد وغيره أن آية (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون- الحجرات 4) نزلت في أعراب بني تميم الذين يسميهم محمد بن اسحق: حفاة بني تميم- (أسباب النزول للنيسابوري).
وقام فقهاء المسلمين بتأصيل التفرقة بين العرب والأعراب بصورة لافتة للنظر، فهم يرون عدم أحقية الأعراب في الفيء والغنيمة، بل وإسقاط شهادتهم عن أهل الحضر، لما في ذلك من التهمة. وإن إمامتهم بأهل الحضر ممنوعة (ابن العربي- أحكام القرآن). ويضيف القرطبي في الجامع لأحكام القرآن- تفسير سورة التوبة: أن أبا مجلز كره إمامة الإعرابي وإن كان أقرأهم. أما (مالك) شيخ المذهب المعروف، فقد قال: لا يؤم الإعرابي وإن كان أقرأهم. وهو بذلك يتجاوز الحديث النبوي الشريف الذي ينص على أن يقوم بإمامة الصلاة أقرأ القوم للقرآن، أي أحفظهم لسوره وآياته. ولا شك أن هذا يعود لنشأة مالك في المدينة، وتشبعه بالعرف الموروث من الأسلاف، بالنظر إلى الأعرابي نظرة دونية.

العلوج والنظرة إلى الزراعة وأهلها
كان رزق العربي السابق على الرسالة المحمدية، يأتيه من سيفه ورمحه، عن طريق الغزو، والغارات التي يشنها على القبائل المعادية، فيأخذون جمالهم ويسبون نساءهم وأولادهم.
وقد يجد العربي القديم رزقه عن طريق التجارة، خاصة فيما يُطلق عليه مدن القوافل، مثل مكة. أو عن طريق حراسة القوافل، أو فرض إتاوة عليها عند مرورها بأرض القبيلة. وقريب من هذا النوع كان (الإيلاف) وأبرز من تعاقد عليه هو هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى تأمن قوافل تجار مكة على بضائعها. وهو الإيلاف الذي أشارت إليه سورة قريش، وذكره شعراءهم عند مديحهم لهاشم.
لم يكن العرب السابقون على الإسلام يعتمدون على الزراعة كمصدر للرزق إلا في مواطن معدودة، مثل الطائف ويثرب وبعض قرى اليمامة. وكثيرا ما كان أهل البادية يفرضون على أهل الزرع إتاوة، لإيقاف شرهم من سلب ونهب وتخريب، أو لحمايتهم من الآخرين. ولعل هذه الإتاوة هي الأصل التاريخي لما عُرف فيما بعد ب (الجزية). وكانت نسبة ملحوظة ممن يمتهنون الزراعة هم من النصارى (بلاد الشام، مصر، بعض قرى الجزيرة العربية). وقد أطلق العرب على الفلاحين الأعاجم لقب (العلوج) جمع (علج) وهو الأعجمي الذي ظل على دينه ولم يعتنق الإسلام. وكلمة (علج) هي قلب لكلمة (عجل) وهي كلمة توحي بالتعالي والتسلط من جانب من أطلقها، وبالدونية على من سمي بها. وعملية قلب الكلمات معروفة في اللغة العربية، مثل مدح، وحمد، فهي تعني إزجاء الشكر والثناء. ومثل جرح وحرج وهي تدل على الضيق والألم.
هذه النظرة إلى الزرّاع والزراعة توارثها الإسلام عن سابقيه من العرب. ففي الحديث الشريف (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم- محمد عبد الرؤوف المناوي- فيض القدير شرح الجامع الصغير). في الوقت الذي كان فيه رسول الله يحض على رعي الغنم، ويؤكد أنها بركة (اتخذوا الغنم فإنها بركة- المرجع السابق). وجاء في الأثر- كدلالة على أهمية الغنم- (ما من نبي إلا ورعى الغنم). وزاد البخاري (قالوا وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط). وكان التفاخر بالغنم معروفا من قديم الزمان كما تشهد بذلك قصائد فحول الشعراء. ويرى المناوي في فتاويه أن المذاهب الأربعة أجمعت على أن من (عيّر برعي الغنم يعزر لأن الرسول كان يرعاها قبل النبوة).
كان بنو حنيفة قبل الإسلام من القبائل النادرة التي عملت بالزراعة، وكانت القبائل الأخرى تنظر إليهم نظرة احتقار، وربما حسد ليسر حالهم، ورخاء عيشهم. ولا أدل على ذلك من الواقعة التالية: كان زياد بن أبي سفيان واليا على العراق، فعزل أنس بن أبي أناس عن خراسان، وولى بدلا منه خليد بن عبد الله، الذي كان من بني حنيفة الذين لا يصلحون للولاية أو الإدارة حسب النظرة التقليدية العربية. فأنشد الوالي المعزول أنس قصيدة هجا فيها زيادا وخليدا وقال: quot;ألا من مبلغ عني زياداmdash; مغلغلة يخب بها البريد// أتعزلني وتطعمها خليداndash; لقد لاقت حنيفة ما تريد// عليكم باليمامة فاحرثوهاndash; فأولكم وآخركم عبيدquot;. وأنس يعبر في هذه الأبيات عن نظرة العرب القديمة لمن يمتهنون الزراعة(ربط الجحاش، والأخذ بأذناب البقر، والإقامة في الحيطان والمزارع) فهؤلاء لا خير فيهم، وسوف يركبهم الذل لأن أولهم وآخرهم عبيد. وهذه النظرة انتقلت إلى الإسلام، أو وافق الإسلام عرب ما قبله عليها.

حرمة النسب
العرب (المستعربة- العدنانيون) أو عرب الشمال، هم من حيث أنسابهم فرع من العبران، لأن العدنانيين يرجعون في أصلهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، وإبراهيم عبراني. والقحطانيون (العرب العاربة) أو عرب الجنوب يرجعون في نسبهم إلى قحطان بن عامر.
وكان للنسب أهمية بالغة لدى القبائل العربية السابقة على الإسلام. وكان العربي شديد الحرص على نسبه، وكثير الاعتزاز به. وقد كثُر النسابون في الجاهلية، ولم تخلُ قبيلة من نسّابة أو أكثر، وكان للنسابين مكانة معروفة مرموقة لدى القوم. ويقال لواحدهم (نسّابة) والتاء في الكلمة للمدح والإطراء، مثل كلمة (علامة) لكثير العلم، و(فهّامة) للفهيم الذكي. وكان أقسى ما يُسب به العربي القديم القول أنه (دعي) جمعه أدعياء، أي أنه منسوب لغير أبيه، أو لا يُعرف له نسبا.
والدّعي أسوأ حالا من الخليع، لأن الخليع معروف النسب، ولكن أهله تبرأوا منه، ولا يطالبون بديته إذا قُتل. ومن لا نسب له، أي مجهول النسب، لا وزن له، لا حيا ولا ميتا. والنسب للعربي القديم، بمثابة الجنسية للمواطن المعاصر، الذي تمكنه جنسيته أن يتعلم في مدارس بلده، وأن يتولى الوظائف العامة فيها، ويكون له حق الانتخاب والترشيح. ولما جاء الإسلام أقر أهمية النسب، وأعطاه القيمة ذاتها التي تمتع بها لدى عرب الجاهلية، لا بل إن الإسلام جعل (نفي النسب) جريمة لها حد معلوم في القرآن الكريم. وقد أكد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كانت توجد آية في القرآن تحكم بتكفير من يرغب عن نسبه، أو ينفيه عن نفسه، أو يتنصل منه: عن وعن... قال عمر: (وكنا نقرأ في القرآن: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم. ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم.- موسوعة فقه عمر بن الخطاب لمحمد رواس قلعجي. والإتقان في علوم القرآن- ما نُسخ تلاوته دون حكمه للإمام الشافعي السيوطي).
أما الأحاديث النبوية الشريفة في مسألة النسب فتتسم بالتشدد (عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من إدعى إلى غير أبيه، فلن يرح رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاما- رواه أحمد في مسنده الحديث رقم 6843). وهذا الحديث يساوي بين (من إدعى إلى غير أبيه) وبين من ارتكب أكبر الكبائر، ومارس أخبث الفواحش. كل هذا لأهمية النسب في المجتمع العربي.
عن محمد بن زياد قال: سمعت أبي هريرة يقول: سمعت أبا القاسم يقول: (الولد لرب الفراش، وللعاهر الحجر- مسند الإمام أحمد. الحديث رقم 1022). أي أن الولد يُنسب إلى أبيه، حتى لو جاء سفاحا عن طريق علاقة غير شرعية تحرمها الشريعة الإسلامية، لأن للنسب أهمية بالغة لدى العرب، ولا أهمية لشرعية الزواج.
إنها لجريمة لا يعادلها جريمة أن يُتهم عربي بأنه مجهول النسب، أو أنه (دعي النسب) وهذا يعني أن أباه غير معروف، أي أن أمه زانية. وعقوبة من يتهم امرأة بالزنا (قذف المحصنات) أقسى بكثير من عقوبة من يتهم أحدا بالكفر. وعقوبة قذف المحصنات ثمانون جلدة، وعدم قبول شهادته مدى الدهر، حتى لو أعلن توبته. وما قيمة من لا تُقبل شهادته في مجتمعه؟ وليس هذا فحسب، بل إن وصمة أخرى ستلحق بالقاذف، وهي وصمة الفسق. (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون- سورة النور آية 4). فإن تقول لعربي مسلم أنت كافر ابن كافر، خائن جاسوس، عميل لأمريكا وإسرائيل، سكير، مرابي، سارق، كاذب، قاطع طريق...الخ. كل هذا لا يُعد قذفا، ولا يُحد بعقوبة القذف. أما أن يقول له يا ابن الزانية فإنها تودي حسب الشريعة إلى الموت في الحياة.
هذا الموقف المتشدد من جريمة القذف، يعود إلى الميراث الذي ورثه الإسلام من العرف العربي القديم فيما يتعلق بأهمية النسب لدى القبائل العربية السابقة على الإسلام.

*الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية- تأليف الشيخ خليل عبد الكريم- دار سينا للنشر- الطبعة الثانية 1997

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه